آخر الأخبار

الإنـسـان الـمـنـتصـب والإنـسـان الـعـاقــل

سـعـد سـرحـان

لم ينظر الإنسان إلى السماء كما يستحق أن يفعل إلا بعد أن أصبح منتصب القامة يمشي، في مرحلة من تطورّه معروفة بالإنسان المنتصب. لقد كانت النظرة تلك مفعمة بكل المشاعر، إذ على إثرها عبد الشمس، وتغزّل في القمر، واهتدى بالنجوم… وما أمسك بعدها فرشاة خياله مرّة إلا يمّمها شطر تلك القماشة الزرقاء.وإذا كان الجسد، رغم ما أفرز من أجنحة بعد تلك النظرة، عاجزًا عن التحليق أبعد مما فعل حتى الآن، فعزاؤه، وهو يُوارى التراب، أن روحه تصعد إلى السماء.ولئن كانت النار الآن قد استتبّ لها الأخضر واليابس، فإن الفضل في ذلك يعود إلى الإنسان المنتصب الذي أطلق شرارتها الأولى من ذينك الحجرين اللذين دونهما كل الأحجار الكريمة. فلولا صنيعُه ذاك، لكان للأرض مصير آخر.لذلك، سيظل الإنسان في كل العصور اللاحقة مدينا لسلفه باكتشاف النار، لا لكونها هي رابع الممكنات بعد الماء والتراب والهواء، وإنّما بوصفها اللبنة الذي اندلعت منها الحضارة البشرية. فبدونها، بدون النار، ما كان للإنسان أن يروّض البأس الشديد ويجعل منه منافع للناس. ولعل ذلك ما استحق عليه اسما أرقى : الإنسان الصانع.علاقة الإنسان بالنار، وحدها، تستحق أن يُفرد لها أضخم كتاب. ألذّ فصوله ما تعلق بالطبخ. وأبشعها تلك التي تخصّ الحروب (حتى بعد وقف إطلاق النار). وأجملها ما خرج من المصهر آلة أو حلية. أمّا أشدها غموضا فتلك المتصلة بالمعتقد: من عبادة النار إلى التعبّد درءًا لها.حسبُ الإنسان المنتصب أنّه انتصب. فلو لم يكن قد فعل، لما استطاع أن ينجب الإنسان العاقل.إذا كان الإنسان المنتصب هو الجنين الذي أنجب أباه: الإنسان العاقل، فإن هذا الأخير لا يني يسخّر كل خلية من خلاياه لإدراك العالم من حوله والاستمتاع بكل ذرّة فيه. فمعه ظهرت اللغة والملابس والعلاقات الاجتماعية… ومعه ظهر الإنشاء والتنشئة، وهما يشكّلان حتى الآن البُعدين اللذين يؤطّران الحضارة البشرية.صحيح أن نظرية النشوء والارتقاء، رغم حداثتها، قد باتت مستحاثة في متحف العلوم… لا بفعل حلقتها المفقودة، ولا لِتضاربها مع ما تقول به الأديان من أن الإنسان خلق في أحسن تقويم، وإنما أيضا لتخلّفها الواضح عمّا وصلت إليه الأبحاث ذات الصلة والموضوع. لكن علاقة الارتقاء بالنشوء لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها أبدًا. فالتنشئة والإنشاء هما الجناحان السحريان اللذان لا يني الانسان يقلّص بهما المسافة بين أخمص التراب واللازورد الأعلى.في الزمن الغابر كان الخيال مرقاة الإنسان إلى السماء، فبها تناول كسرة من القمر مع حفنة من النجوم قبل أن ينام قرير العين على العهن الوثير للغيوم. ولأن الخيال مسوّدة شاسعة للواقع، فقد وجدت على مرّ العصور من يحاول تحريرها، وما الحضارة الإنسانية سوى نتيجة للمحاولات تلك.لعل النمرود، نمرود بن كنعان، أول من طمح إلى الصعود إلى السماء بالفعل لا بالخيال. ولقد أسفر طموحه عن أقدم برج في الأسطورة مشهور في الواقع: برج بابل. وهو البرج الوحيد في تاريخ البشرية الذي تمّ تشييده بالسواعد واللغة، فرسخ نصًّا بعد أن تداعى صرحًا. اللغة كانت، أيضا، أداة هدم. ذلك أن بلبلة الألسن هي المعول الذي أعملته الآلهة في البناء، فتحطّم البرج ونشأت اللغات، فكانت: النشأة على أنقاض الإنشاء.غير بعيد عن النمرود، زمانًا ومكانًا، عاش جبابرة آخرون لم يروا لهم في أعماقهم شبها بالإنسان، فأضفوا على أنفسهم ما استطاعوا من الألوهية. أولئك الجبابرة يقال لهم الفراعنة، وقد عاشوا في قصور منيفة كانوا يعرفون أنها لا بد سَتَدْرَس، لذلك أعدّوا لخلودهم قبورًا مخيفة تليق بالآلهة، قبورًا لن تدرَس أبدًا: الأهرام. وإذا كان قدماء المصريين قد أنشأوا تلك العجائب، فلنا أن نتخيّل أيّة تنشئة أوصلتهم إلى ذلك.حسب المؤرخ الأشهر، هيرودوت، ليس الإغريق سوى أطفال أمام المصريين. فدعونا نتفرّج على ما فعل هؤلاء الأولاد قرونا قبل الميلاد. بخصوص الإنشاء، من الصعب ذكر كل ما خلّفه بناة أثينا وإسبرطة من روائع، لذلك سنكتفي بذكر الأكروبول شاهدًا لا يرقى إليه الشك. وبخصوص التنشئة، يكفي تلك الأرض العالمة أن شوارعها كانت مدرسة يتلقّى فيها السابلة الشك قبل اليقين، وأن درسها الخالد كان تفضيل سقراط كأس الشَّوْكران على الحرية هربًا، مثلما يكفيها أنها كانت مدرسة للعالم، ليس فقط من خلال المعلم الأول، أرسطو، بل أيضا من خلال غير قليل من أترابه، فهذا إقليدس يؤسس هندسته على خمسة أركان يقال لها “موضوعات”، وكأنه بذلك يؤسس ديانة لا حاجة لها بمعابد طالما أن كل بناء في العالم لا تقوم له قائمة ما لم تطبق فيه تعاليمها.
وهذا فيثاغورس يجترح الجذور المربعة من تلك المبرهنة المعروفة باسمه فيقدم للعالم مجموعة الأعداد الحقيقية هدية لا تقدر بثمن. وهذا، ليس أخيرًا، أفلاطون بمحاوراته وجمهوريته وأكاديميته التي عمرت تسعة قرون، تلك التي لم يكن يدخلها من لا يعرف الهندسة، في ربط واضح للإنشاء بالتنشئة. صحيح أن سوفوكليس هو من رمى لفرويد بذلك الحبل العابر للقرون وفي طرفه عقدة أوديب…وصحيح أيضا أن هوميروس هو من أنشأ ذينك البرجين التوأم: الإلياذة والأوديسة… مثلما هو صحيح أن الإغريق قدّموا للعالم الدروس الأولى في الفلسفة والقانون والرياضة والسياسة… لكني أسهبت في الحديث عن الهندسة لا لأنها أسُّ الإنشاء والتنشئة، ولا لحاجة في نفسي، صدقوني (كيف أفعل، وفرويد شخصيا على بعد سطور من هذا الكلام)، وإنما لأن غير أب التاريخ، هيرودوت،اعتبر أن الله خلق الكون والإغريق هندسوه.المدينة الخالدة، روما، وكتاب “فن الهوى” لأوفيد، هما برأيي محورا الإنشاء والتنشئة اللذان يحدّدان معلم الحضارة الرومانية العظيمة، وهما لن يصبحا أبدًا أثرًا بعد عين. وإنما سيظلان عينين واسعتين تنظران بكثير من الزّهو إلى ما يرى فيهما الآخرون عبر العصور.لجهة العمران في الحضارة الفارسية القديمة، اكتفي بذكر ضريح قوروش الكبير وقلعة حفتر ومدينة فيروز آباد. ولجهة عظمة الإنسان، أكتفي بذكر ابن سينا الذي سمّاه الغربيون أمير الأطباء، وبديع الزمان الهمذاني صاحب المتحف اللغوي الخالد: المقامات.بعمائم كالتيجان وسروج كالعروش قطع العرب مسافة حضارية تمتدّ من مضاربهم في الصحراء حتى قصورهم في الأندلس. هذه المسافة بين السراب وبين النوافير تحسب بالأميال والقرون، فكيف السبيل إلى التعبير عنها بكلمات في سطور؟العرب أنشأوا الخيام بيوتًا وأنشدوا الشعر أبياتًا. لا بيوتهم حملت عناوين ولا أبياتهم فعلت. لبيوتهم حبال وأوتاد ولأبياتهم أوتاد وفواصل. فإذا درسَتِ البيوت وجدت نفسها على رأس الأبيات في تلك المقدمة الطللية التي خلّدت المرأة والمكان كما لم يفعل غيرها. فلو شيَّد الأثرياء العرب الآن أعلى برج في العالم بين “الدخول فحومل” لما قدموا ل”سقط اللوى” ما قدم بيت امرئ القيس.لقد شيد العرب في ذلك الزمن البعيد أبراجا دونها الأبراج. فما إن دُوِّنت قصائدهم حتى أسفرت الواحدة منها عن برج من الصدور وآخر من الأعجاز. ولعل المفاتن تلك هي التي كانت وراء تسمية الشعراء بالفحول، أو ربما كان لقدماء العرب مفهومهم الخاص للإنسان المنتصب حتى قبل أن تقول به النظرية الغربية، فإذا “انتصب” منهم شاعر واشتدّ “عوده” سمّوه فحلا.عرب الرمل والسراب هؤلاء خلّفوا نسلا دانت له الأرض ترابًا وماء، وأنشأوا حضارة دونها الكثير من حضارات التاريخ، فكانت عاصمتهم تأمر وغيرها يطيع، وعلماؤهم يتكلمون وغيرهم يصغي، كيف لا والواحد منهم كان جمعًا بصيغة المفرد. فالفارابي، على سبيل المثال، كان خليطا من أرسطو وأفلاطون، فهو المعلم الثاني وصاحب المدينة الفاضلة. وابن رشد، على سبيل الإجلال، شغل الناس حيَّا ورفاتًا. وما هذان سوى شعاعين من ثمانية قرون من الضوء لم تبتدئ ببيت الحكمة ولم تنته بقصر الحمراء.أمّا ذلك الشرق الحكيم، حيث تاج محل والسور العظيم، فقد تربّى على أيدي لاوتسو وبيدبا وكونفوشيوس وبوذا وغيرهم. ولست أعرف مَن مِن هؤلاء الأفذاذ لخّص نظريته حول الإرتقاء بهذه الوصية الخالدة: إذا أدركت قمة الجبل فواصل التسلق.ولعل أبهى صور الرقي وليس الإرتقاء فقط، هو ما تقدمه الآن أوروبا ذات عواصم الأنوار. فبرج إيفل وحده يلخّص عبقرية الإنشاء، لا لأنه توقيع غير قابل للتزوير، ولا لِما تجنيه فرنسا من أمامه… بل لأن باريس بدونه لن تتعرّف على نفسها في مرآة الحضارة، تماما كما كان سيحدث لفرنسا كلها، لو أنها لم تكن قد أنجبت روسو وموليير وسارتر ولافوازييه وجان دارك ونابوليون وغيرهم من الأبراج التي يراها العالم من أيّ مكان فيه.ولمَّا كانت الخميرة تتفوق على عجينتها، فقد شطت أمريكا أبعد مما تصوّر مستكشفوها، حتى أنها أصبحت الآن تُخجل الخيال وتحرجه بواقعها. في أمريكا، لا شيء يعلو على الإنسان. فإذا كانت ناطحات السحاب تنظر إلى الإنسان من فوق فيبدو لها صغيرًا، فإن رواد الفضاء لا ينظرون إليها أصلا. في أمريكا، وحدها السماء فوق الإنسان، لذلك جعلها هدفه الأسمى: سْكايْ إِزْ ذُ ليميتْ.ما من حضارة تَخَلَّقَت بعيدًا عن الماء، ليس بدءًا بتلك التي كانت تربط ترحالها إليه بالكلأ، وليس انتهاء بتلك التي مخرت آلافًا من أمياله المالحة لوضع يدها على مزيد من اليابسة. لقد كان الماء الوقودَ والمحرّك، وما من بئر حُفرت أو قطيع سِيقَ لأجل غيره، قبل أن تنخر الأرضَ آبار سحيقة تنفث النار ويقصدها جبابرة الرّحّل بقطعان من الدبَّابات وحاملات الطائرات…وليس من عجبْ أن تكون آبار اللهبْ قد ظهرت في أرض العربْ، فإن هو إلّا سراب الدهور ترسَّب فإذا هو ذهب دونه الذهبْ. هكذا، في مدن الملح، اندلعت الأبراج من الآبار كانعكاس، فعلى قدر العمق يكون الارتفاع كما على قدر الرحم تكون الفحولة. وهكذا أيضًا، بعد أن كانت القصائد أبراجًا، تم اختزال البيوت والأبيات، فإذا أبراج العرب هي معلقاتهم وقصائدهم العصماء، وكأن آبار الخليج عوّضت بحور الخليل.ما من إنشاء تقوم له قائمة بلا تنشئة سليمة. فلو اجتمعت كل عجائب الدنيا في بلد واحد، وليكن المغرب على سبيل الحب القاسي، لما سار بذكره أحد. فالحدائق المعلقة ستغدو ملاذًا للسكارى والمشردين والمتربصين بسابلة الهزيع الأخير من الليل، والسور العظيم سيتداعى بفعل ما تضخه عليه مثانات أمثال هؤلاء وغيرهم، وتاج محل لن يعدم من يسمل جوهرته، وحتى أبو الهول لو كان على أرضنا، فلن يخيف أحدًا، وبسبب حجمه وتاريخه، قد يكلف اختفاؤه أكثر قليلا مما كلف اختفاء باخوس من وليلي.يحتاج الإنشاء، إنشاء الصروح والجسور والأبراج والطرقات، إلى مهندسين ودراسات وعمال ومواد ومعدّات… وأيّ خلل هنا أو عطل هناك تكون نتائجه وخيمة على البلاد والعباد. التنشئة، تنشئة البشر الذي هو حجر الزاوية في أي إنشاء، لا تقل تعقيدًا. فعلوم التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس والأسرة والمدرسة والمحيط الاجتماعي وظروف العيش وغيرها، ليست سوى باراميترات في معادلة التنشئة التي لا حلول نهائية لها، لأن الإنسان حقًّا هو “أكثر شيء جدلًا”.في البدء كان القاتل شقيق القتيل، ثم أصبح القاتل ابن القتيل ووارث زوجته، قبل أن يستتب الأمر للقتل وتصير له مختبرات وكليات ومصانع ومنشآت… فأيّ تنشئة هذه التي جعلت القتل على رأس الأعمال الكاملة للإنسان، وأي تنشئة هذه التي، عبر التاريخ، بوّأت الموت صدارة الحياة؟ إذا كانت التنشئة والإنشاء هما الوجه البشوش للحضارة في السلم، فإن القتل والهدم هما وجهها العبوس في الحرب، وكأن شارة النصر تتشكّل من قتل الإنسان وهدم العمران. لقد كانت الحروب القديمة تستهدف النفس وما ملكت، قتقتل وتغنم وتسبي، ثم تطوّرت بتطوّر الإنسان، فصارت تستهدف ما أنجز وما زرع وما عمَّر. فإذا كان قتل النفس والنسل إجهازًا على الحاضر والمستقبل، فإن إحراق المكتبات ونهب المتاحف، وهو نوع من محو الشهود، إعدام للماضي أيضا. جثة المهزوم وأنقاض حضارته كانت دائما “البوديوم” الذي يعتليه المنتصر، ففي ذلك انتصابه الذي يؤكّد فحولة الحرب، خصوصًا وهو يرى من علياء نفسه (أم من حضيضها؟) عدوَّه مسجى أو راكعًا أو بطوق في العنق، وقد عاد إلى ما قبل تلك النظرة الأولى إلى السماء.التنشئة والإنشاء هما البرجان التوأم في السلم كما في الحرب. وكم من إكليل غار فوق رأس الإنسان بات إكليل عار فوق ضمير الإنسانية.