آخر الأخبار

الملاح

إدريس بوطور 

عاش اليهود منذ عدة قرون حالة هجرة ونزوح مستمر ، حيث تفرقوا في مناكب الأرض فلم تخل دولة من وجودهم في إطار أقليات عرقية ودينية وفي بعض الأحيان تكون أقليات مستضعفة ، وهذا ما جعل اليهود منذ مئات السنين يلجأون دائما إلى التجمع في مكان واحد للتحصن والدفاع والتشبث بديانتهم وطقوسهم وتقاليدهم ووضع حدود فاصلة بينهم وبين السكان أصحاب الأرض فهم لا يثقون إلا في بني جلدتهم ولا يتشاركون مأكلهم ومعيشتهم مع الآخرين غير اليهود** هذا التجمع اليهودي هو ما كان يسمى في المغرب ب ” الملاح ” ، ورغم زوال اليهود من المغرب ونزوحهم إلى أقطار أخرى منذ إعلان دولة إسرائيل سنة 1948 إلى هزيمة حزيران 1967 فإن تسمية الملاح ما زالت قائمة على نفس الأماكن التي كان يسكنها اليهود في حقب آنفة ** وأول ملاح تم إحداثه بالمغرب كان بمدينة فاس في العصر المريني حيث تم تجميع الطائفة اليهودية في منطقة بمدخل فاس الشرقي كان مخصصا لتجميع وتخزين الملح ،هذا المكان كان محاطا بسور ذي بابين ، ومن هنا جاءت تسمية هذا التجمع بالملاح وأصبحت تطلق على أي تجمع سكني يهودي بالمدن المغربية الأخرى ** ولأن اليهود كانوا يتوفرون على فكر مركانتيلي فقد كان الملاح مركزا تجاريا يتعاطى اليهود داخله حرفا متعددة وصناعات تقليدية عملوا على نشرها بالمغرب مثل الصياغة والخياطة والتجارة والسكافة وفنون الطبخ ** كان الملاح شبه دويلة داخل الدولة الرسمية يتمتع باستقلال ذاتي في التسيير والتدبير تحت سيادة الدولة المغربية التي كانت تستفيد من الضرائب المفروضة عليه ، كما أقام اليهود داخل الملاح معابدهم ومدارسهم ومجازرهم وقضاءهم لفصل القضايا الخاصة بينهم ، أما النزاعات التي تحدث بينهم وبين المغاربة فالفصل فيها كان للقضاء المغربي ** لعب الملاح دورا اقتصاديا متميزا في تنشيط التجارة والفلاحة والحرف والصناعات التقليدية مما جعله مصدرا ماليا لدعم خزينة الدولة ، وبالإضافة إلى الدور الاقتصادي لعب الملاح دورا سياسيا كوسيط في إبرام عدة اتفاقيات وصفقات بين المغرب وأوروبا عبر تجار يهود ذوي نفوذ قوي ، بالإضافة إلى قيامهم بالترجمة وتقريب وجهات النظر بين الدولة المغربية في عصور سالفة ومحاوريها من الأجانب ، هذا الدور السياسي للملاح لم يفصح عنه بشكل جلي وواضح بل بقي بين ثنايا صفحات التاريخ يطل علينا بين الفينة والأخرى من خلال أعمال المؤرخين الباحثين والنابشين في خبايا الوثائق والمخطوطات.