آخر الأخبار

عقال الوهم

محمد خلوقي
1-المتن :
يحكى ان فلاحا كان يحمل بعضا من محاصيله الزراعية على ظهر حمارين، وتوجه بها الى السوق المجاور ليبيعها ، وحين وصل إلى باحة السوق , وضع البضاعة من فوق ظهر الحمارين ، وتنبه إلى ضرورة وضع قَيْد للحمارين حتى لا يبرحا مكانهما ،فاخرج من جيبه رباطا قيَّد به الحمار الأول ، ثم دسَّ يده في جيبه ليخرج القيدَ الثانيَّ، فسحبها بيضاء خاوية ،وأعاد الكَرَّة فلم يجد شيئا ، وراح يتلفت يمنة ويسرة لعله يجد أي رباط يُقيِّد به الحمار الثاني، وبينما هو كذلك إذْ بصوت شيخ مسن ،كان بقرب المكان ، يرشد الفلاح ويقول له :
تظاهر يا بني وكأنك تُقيِّد حمارك ، بضَمِّ رُسْغِه الى عَضُدِه وَارْبَطَهُمَا مَعاً، وسترى انه لن يبرح مكانه، لأن ما اعتاد عليه الحمار ، باستمرار، من عملية تكبيل حافريه ، سيجعله ـ لا محالة ـ يعتقد بأن حركته وحريته مقيدة .
وبالفعل جرَّب الفلاح نصيحةالحكيم ،وتظاهر بوضع القيد برجلي الحمار، ثم انصرف إلى شأنه ، وبعد أن انتهى من بيع محصوله الزراعي ، رجع إلى حيث موضع الحمارين ، وفَكَّ قيد الحمار الأول ، ثم جره خلفه فطاوعه، لكن الحمار الثاني جَمح ، و لم يتحرك من مكانه ، وحاول الفلاح زحزحة الحمار عن موقعه لكن دون جدوى ، فألْفى الفلاحُ صوتَ نفْسِ الشيخِ الحكيمِ يقول ُله :
إنك لم تَفُكَّ ذلك القيدَ الوهمي لحمارك ، انْحنِ قليلا ، وتظاهرْ يا بني ، بأنك تزيل القيد عن رُسغ الحمار وعضده ، وسترى انه سيتحرك ويتبعك .
وبالفعل حصل ما قاله الشيخ ُالحكيم . وخرج الحمار من قيده الوهمي، وسار الحماران وراء الفلاح .
2-الحاشية والتعليق :
نستنتج من هذه الحكاية الرمزية أننا مقيدون بأعراف ،ٍوتقاليدَ، وأفكارٍ، وسلوكات ،ومفاهيم ومخططات ،تُكبِّلنا وتجعلنا غير قادرين على التحرر من عِقالها ، بل أحيانا ننتظر من يأتي ليحررنا من هذا العقال الوهمي ، وربما أن الذي يرسخ (وهم القيد) في سلوك وفكر الفرد عوامل متعددة ، لهل الرزها هو عاملا الخوف المرضي (الرُّهاب ) ، والجهل
لا الأمية ـ لأن الأمي ليس له تصور قبلي عما يريد تعلُّمَه، وبإمكانه أن يتعلم الجديد إن قُدِّم له بطريقة سليمة ـ
فالجاهل تنطبع في ذهنه تصورات وأوهام مغلوطة، تقيد فكره وسلوكه ،ولا يريد أن يتزحزح عنها ، وقد يحتاج معها زمنا طويلا، ومكابدةً وجهدا لتصحيح ما اعتقده .
أما الخوف المرضي ، فهو ذاك الشعور الذي يتسسلل خِلْسة الى عقل الإنسان ،تحت ظروف داخلية او خارجية ، وتجعله يترقب باستمرار حدوث أمر سيء او غير متوقع ، وهكذا يتغلغل هذا الشعور المرضي في دواخل المرء ،ولا يستطيع تخليص نفسه من قوة هذا العُقال المرضي ، ويبقى على وهمه وهمه حتى تُشل حركته .
ولا ادل على ما سلف ذكره ، هو ما صار عليه الوضع الانساني المعاصر من تخبطات وسط مسارب مظلمة من قيود مرضية تحد ُّمن تحركاته ، وتصوراته ، وعيشه ، كل جهة توهمه بحدود وقيود لا يجوز الخروج عنها ، فتعددت اسماؤها وأقنعتها لكن هُويتها واحدة وومنهجيتها موحدة ؛ فهذا يخيفك من فيروس قاتل ، وذاك يوهمك بإعصار قادم ، والآخر يُحدثك عن حرب مدمرة ، او عن كساد اقتصادي غير مسبوق ، وفئة تُخوفك باقتراب الفناء، وزوال البشر والشجر والحجر ، وتقوى تخويفها باحاديث الشجاع الاقرع عن عذاب القبر، وثعابين وحيات لها رؤوس وانياب أسطورية.. نعم ،هكذا صار الناس في قلق مستمر ، يبيتون مع اشكال من هذا الوهم ، ويصبحون على قرع طبوله .
دون نسيان فئة اخرى تعيش وَهْما من نوع آخر ، انه وهْم الرفاهية القادمة ، وَهْمٌ موصوفٌ عندهم بانه مُرتقب ، وسيأتي ، وقد تم َّ تسويقه في صور متعددة :من قبيل وهم الديمقراطية، والحرية والعدالة والمساواة ،و الخلافة على منهاج السلف الصالح ..
و تبالغ هذه الفئة في تمجيد هذا المأمول ،وتزكي انتظاراته ، وتجعل له عِجْلا له خُوار اعلامي ، كعجل السامري .
واحيانا تنزوي وتتقوقع وتتفجر حين تتراجع مؤشرات حدوث هذا الحلم المأمول.
والغريب كذلك ان هذه الفئة لا تمل من انتظار ذاك المُخلِّص ، بل تتفنن في تجسيده وتشكيله تارة تسوقه في ذاك الزعيم الفريد القادم ، او في هذا الحزب الاوحد القادر ، اوذاك المهدي العادل المنتظر ، وهكذا تربي نفسها وأشْياعها على الكسل ، والتمني الوهمي بمُخلِّص قد لا يأتي .
واعتقد ان السبيل الى الخروج من هذه الاوهام والمستغلقات ، والقيود تتطلب منا ؛
اولا تغيير ماء الاستحمام التصوري والفكري ، من ذاك الماء الساخن او الدافئ ، الى الاستحمام بماء بارد جدا، و قادر ان يُحدث فينا الرعشة وفعل اليقظة الحقيقية ، انه ماء العقلانية، والنقد الموضوعي ، بدل اوهام الخرافة والدجل والتدجيل .
وثانيا لابد من إخراج صوت إرادة التغيير من أعماقنا ودواخلنا كل في مجاله وتخصصه ، حتى نتمكن من كسر حاجز الصمت والخوف ، وإزالة الاوساخ التي علقت باجسادنا ، وتراكمت أدْرانها لعهود طويلة، لدرجة انها غيرت معالم وتضاريس جلودنا وأجسادنا .فلم نعد نعرف هويتنا الحقيقية
أ نحن من جنس البشر ام الحجر ؟؟!!
لابد ان نَفُك قيودَ هذه الاوهام التي تسللت الى نفوسنا ، وكَّبلت فكرنا ، وحجبت عنا الرؤية الحقيقية ، علينا ان نعيد النظر في مفاهيم َومعتقدات وافكار ، قيَّدتنا من زمن بعيد ، صنعتها قوى شيطانية ، وحَرسها حرَّاس المعبد ، بعد ان اخذوا ألقابهم ونياشينهم من كُبرائهم الذين علموهم كيف يتلاعبون بالدين والسياسة ، والاقتصاد ، والفكر ، والاعراف ..
فقيدوا الناس بالخوف وبالمعتقدات الباطلة ، وبالاوهام الفاسدة، والاماني المستحيلة ، فصاروا مثل ذاك الحمار الذي آمن وأيقن وَهْما انه ُمقيد ، فظل كذلك ، دون ان يستمتع بحريته ، وقدرته على التجوال والحركة .
بقلم الاستاذ محمد خلوقي