آخر الأخبار

مشاهد من الحارثي

سار الجمهور أفرادا وجماعات في ذلك الممشى المنعش بالحي الراقي عصر يوم الأحد المشمس، وبمحيط الملعب الشهير كانت قد دبت حركة ونشاط غير عاديين منذ ساعات الصباح الأولى؛ تذاكر، أكشاك و”كرارس” لبيع مختلف أنواع السندويتشات والمشروبات، جمهور يتوافد من مختلف الأحياء بعضهم على ركوبة وآخرون زحفا على الأقدام محملين بالطبول والأعلام والشعارات أو فقط بألسنتهم وأكفهم الكفيلة لوحدها بخلق أجواء حماسية لا مثيل لها…
فرحة ما قبل المباراة لم يعكر صفوها إلا الازدحام الشديد عند كشك التذاكر حيث أن كل هذه الجحافل البشرية وقفت طوابير طويلة عند كشكين أو ثلاثة أكشاك هي كل ما خصصته إدارة الفريق للراغبين في “التقطاع”، وفي أحد هذين الكشكين جلس “خلافة” ابن إحدى الحومات العريقة في المدينة القديمة والفتوة السابق بسحنة متبرمة وهو يؤدي عمله بمنتهى الجدية وبأسرع ما استطاع إلى ذلك من سبيل.
————————————————————————
بمحيط الملعب وقف بعض الأطفال والمراهقين ممن لا يمتلكون ثمن تذكرة الدخول، مترصدين مرور الكبار بغية استعطافهم ليدخلوا في “حماهم” دونما حاجة للدفع، فقد كان الطرد مصيرهم عند الباب الرئيسي وإذا كان حظهم سيئا بما يكفي، فقد ينالون أيضا بعض الضربات والركلات من رجال الشرطة أو القوات المساعدة، كانت وجوههم تنطق بالاستعطاف والتوسل، لكن قلما كان يهتم بهم أحد.
————————————————————————–
امتلأ الملعب عن بكرة أبيه قبل ساعتين أو ثلاث ساعات من ضربة الانطلاقة، وبدا جليا أن حجم الجماهير التي ما زال بعضها يتوافد تباعا أكبر من الطاقة الاستيعابية للملعب…
ضربات الطبول، أهازيج شعبية، كريف الميزان، النقايم وفن الرد وكأنه قصف السنين المتبادل بين جرير والفرزدق، وبعض الأناشيد التي تتغنى بأمجاد الفريق:

أهايو…أتيا تيا كوكآآآاب…أهايو…
سلامو يا سلامو…الكوكب يا ميلانو…
وأنا يا ربي تنبغي فرقة حمرا كوكابية…تتلعب بالتقنية….
وا الكوكابي…عنداك أوا تدير الكعية…
—————————————————————————–
وأخيرا انطلقت المباراة التي لن تكون سهلة بين الفريق المحلي الساعي للمنافسة على اللقب، وخصمه صعب المراس الذي لن يجعل المهمة سهلة، وهكذا استهل الفريقان الدقائق الأولى بحذر وترقب على وقع جس النبض بينهما، ثم كادت قلوب الجماهير تقع عندما شن الفريق الضيف هجوما مباغثا كاد يخطف على إثره هدفا يعقد به المهمة أكثر، ثم سارت أطوار الشوط الأول سجالا بين الطرفين وعجز المحليون عن خلق الخطورة أمام خصم منظم ومتراص في مناطقه، مما حذا بفئة من الجماهير للانقلاب على فريقها بأقذع أنواع السب والشتم والكلام النابي الذي جعل الآباء في منتهى الحرج مع أبنائهم، وقد نال باعة البيض المسلوق وكاوكاو مڭرمل والكاسكروطات نصيبهم أيضا من هذا الكرم الحاتمي؛ ففي عرف المشجعين العصبيين، يا ويل من وضعه حظه العاثر في مجال الرؤية ساعة العسرة والتعثر!!
——————————————————————————
مع بداية الشوط الثاني تغيرت معطيات اللقاء رأسا على عقب، فقد دخل الفريق المحلي بعزيمة أقوى على الفوز وبحماس مرعب وكأن المدرب قد همس في آذان لاعبيه بكلمات سحرية خلال استراحة ما بين الشوطين، فتوالت الهجمات واحدة تلو الأخرى، ومع كل واحدة منها كان صراخ الجمهور يدفع اللاعبين لأكل العشب والاستئساد، ثم لم يلبث أن أتى الهدف الأول على إثر عمل جماعي انتهى برفع الكرة بتمريرة من اليمين انبرى لها ذلك المهاجم الفذ الذي لم تكن كراته تصد ولا ترد، لتتحول المدرجات إلى حالة من الهستيريا الجماعية، ثم بعد أن هدأت النفوس نسبيا، لم ينس الفرحون توجيه عبارات اللوم والعتاب للفئة التي شككت بقدرة فريقها على تحقيق الفوز خلال الشوط الأول، ولم يمر الأمر بسلام بين الطائفتين إذ أنهما تبادلتا الاتهامات والشتائم ولم يبد أن واحدة منهما على استعداد للتفريط في وجهة نظرها التي تراها على حق وصواب.
—————————————————————
بعد هدف الفريق المحلي، حاول الضيوف تعديل أوتار أدائهم والعودة في المباراة، لكن التنظيم والثقة اللتان لعب بهما أصحاب الدار جعلت مساعيهم تذهب سدى، لكن الأدهى من ذلك أن المحليين تمكنوا من تسجيل هدف ثان في حدود الدقيقة 73 بعد أن اخترق لاعب الوسط المبدع دفاعات الخصم بتمريرة حريرية محكمة وضعت المهاجم رأسا لرأس مع حارس الضيوف ليأخذ كامل وقته في مراوغته ويضع الكرة في الشباك بمنتهى الأريحية…
سادت حالة من النشوة والارتياح بعد هذا الهدف الثاني المطمئن أكثر على ضمان نقاط المباراة، وبدأت بعض الجماهير تصرف نظرها عن مجريات اللقاء لتناقش حظوظ فريقها في المنافسة على اللقب، فيما عبر آخرون عن هذا الاهتمام بنتائج الأندية المنافسة بوضع أجهزة راديو على آذانهم تنقل إليهم أطوار باقي مباريات البطولة الوطنية عبر أثير برنامج الأحد الرياضي الذي يقدمه الصحفي المتمكن “محمد العزّاوي”…
————————————————————–
خلال ربع الساعة الأخير من المواجهة، انفتحت أبواب الملعب في وجه المئات من الأطفال والمراهقين وحتى بعض الكبار المعوزين الذين كانوا يرابضون بالخارج بعد أن منعتهم قلة ذات اليد من ولوج المباراة منذ بدايتها، فدخلوا سراعا يجرون ليلحقوا بما تبقى من أطوار المقابلة وليشاركوا الجماهير التي سبقتهم فرحتها بالفوز والانتصار…
صحيح أن مثل هذه الفرصة قد لا تتاح لهم إلا مرة بين كل فترة وأخرى، وصحيح أنهم يتعرضون للسخرية بحيث أن باقي الجماهير كانت تصف هذه الفسحة التي يحظون بها بكلمة قاسية هي “ربع ساعة ديال الفقرا”، لكن كل هذا لم يكن يهم بقدر الفرحة والفخر بفريقها المحبوب الذي كان يقام له ويقعد في ذلك العصر.

  • sridi 3.jpg
    49.5kB
    مراد الناصري