آخر الأخبار

احمد طليمات فقيد بمذاق التفرد و نكهة التعدد

حميد منسوم

اعترف بداية، بانني لا أحذق لغة المراثي، ولا اتقن بلاغة النحيب، ولكن وشائج الصدق والصداقة التي جمعتني الفقيد خصالا ونضالا وثقافة وابداعا، تفرض علي تخليد ذكراه بما يستحقه.ولم أجد في مكنتي إلا تشذير الحروف المشكلة من اسمه ونسبه،مستهديا في ذلك بديوان (لحاءات حليمة…….وللحروف ……شمائل )
1) الف اولى: تقف بكل شموخك وسخائك الوجداني الفائض عن العد والاحصاء ،بل وحتى في اللحظة التي غيرت فيها الريح اتجاهها وتباينت التقديرات السياسية بين الرفاق وانخفض منسوب الأخلاق في الممارسة الحزبية، مارست نقاءك بالطريقة التي ترضيك ،فصام لسانك عن النميمة الرفاقية، وحافظت على مسافة واحدة من الجميع دون تجريح او تخوين.
2) حاء : حليمة،ما أنجبتك -بكل امومتها الطاهرة-الا لتجعلك منذورا لحلم جماعي لم يعد له من الريح ما يكفي لنرفع بيارقنا.لكن -وببهاء العناد الذي يسكنك- اصررت على مواصلته بطريقة التواري دون الاختفاء،وبتغيير المقعد دون مغادرة القاعة،لتكتب نصوصك الجامحة والزاخرة بالعذوبة والعذاب والعابرة لخرائط العالم والغضب والتمرد، والمنضوية تحت لواء الحالمين بالضوء وفراديس المستقبل.
3) ميم اولى:مبدع برغبة دفينة في كتابة نص يتأبى على كل التخوم النقديةالمرسومة سلفا. مبدع زاوج بين الشعر والسرد.الاول رقص والثاني حركة.مبدع يحبر نصوصه بيسر ساحر وتحليق طليق في سماء الخيال ،لان الالتزام عنده لا يحمي الرداءة ولا يستكين للهتافية والحماس الرخيص. مبدع تصادى مع السياب بترصيع أحد دواوينه بقلادة بلاغية تستمد ضوءها الإحالي من الإرث التموزي(وثني مطر لاحمد طليمات//انشودة مطر للسياب)
مبدع يخلق عالما سرديا مفعما بشغب جميل،وسجال مثمر ،ومشاكسة حالمة،وبكلمات ترتعش بين أنامله لأنه يطوح بها الى اقصى تخوم السخرية القاتمة.مبدع يناوش السرد بوجع انساني،يكابده بهدوء ظاهري وتاجج داخلي ينقذف عبر شخصيات واطئة تتسلق الامها لتصل إلى قمة المهانة.مبدع يتلذذ بما تيسر من فرح شحيح يصارع به كوارث الظلام والظلام.
4) دال : دين قض مضجعك بوخز أسئلة مقلقة: كيف نتعامل مع كائنات تربك ممكناتنا من السعادة،بعد أن حولت المقدس من أفق تنويري إلى أفق تكفيري؟ لماذا نرجع إلى الماضي هل لنستنسخه ام لنستوعبه؟ هل يمكن أن نجعل من المقدس انتماء جمالياالى العالم؟ أليس حريا بنا ان نستثمر المقدس كمحفز على التقدم، بعد أن كان محرضا على الوطنية في سياقنا المغربي؟
هي أسئلة كنت تروضهابالتاكيد على ان المقدس عندنا هجرته الدراية وانهكته العنعنة والرواية، وانشغل بما ترك الآباء والأجداد، دون اشتغال على ماسيضيفه الأبناء والاحفاد. مما يستوجب-في نظرك-تغيير البوصلة من صقيع الترديد إلى حرارة التجديد والعمل على صياغة أفق تاويلي بديل للمقدس: يعوذل من الضغينة والكراهية ،ويبسمل بالكرامة والحرية،ويحمدل بالتسامح والمحبة ويستهدي بنور العقل والحكمة.
5) طاء : طيف ابيقور يلاحقك في حلك وترحالك ويستضيفك لتشرب نخب الحياة إلى آخر قطرة من عنفوانها،وتغذي قلبك بما يكسبه مناعة ضد صدأ المشاعر وبما يديم ابتسامتك الفطرية على محياك.. وعندما تنجذب نحو الحسية،فإنك لا تدحرجها إلى حضيض الشبقية الفجةوالابتذال السوقي.بل تصعد بها إلى مراقي التشكيل الابداعي ،فيغدو الجسد بكل فتنته لوحة فنية للتذوق الجمالي ،وليس شهوة مشبوبة باللهيب الغرائزي.
6) لام : ليونة في المواقف وصرامة في المبادئ، وانضباط(شبه اورثوذكسي) للقوانين والمساطر التي نتعاقد عليها ،واحترام للمواقيت التي نحددها، والأنشطة التي نبرمجها.وكلها ضوابط شكلت منك ايقونة لجنتنا الثقافية بمركز التنمية ، اقتراحا وبرمجة وتنشيطا وانعاشا لذاكرتناالمحلية، والوطنية ،سياسيا وثقافيا وفنيا واعلاميا. وبعيدا عن اجتماعاتنا، تقضي يومك متأرجحا بين قراءة أنيس، ومناقشة جليس. والباقي -خارج اللوازم الضرورية للحياة اليومية- تشنف فيه سمعك باعذب الالحان، اوتمتع فيه بصرك بأجود الأفلام ، او تضرب في الأرض جذلانا بفرح طفولي لحجز مكانك قبل بداية ندوة او محاضرة.
7) ياء : يتم فادح غرس مخالبه في كياني سيحرمني من قفشاتك ومناقشاتك ، والتي كان آخرها ذات خميس ،جادت فيه السماء بمطر خجول، وخيمت على نقاشنا-وربماسجالنا- نبرات يأس جاثم ،لكنها لم تحل دون وصولنا إلى اربع خلاصات اسوقها أمانة لروحك على الشكل التالي :
الخلاصة الاولى : ان العنوان البارز لمتاهتنا الجماعية، هو عدم معرفتنا العلمية بعطبنا البينيوي هل هو في الطريق ام في السيارة.هل في محركها ام في عجلاتها.
الخلاصة الثانية : أن السياسة قدرنا الوجودي اما ان نفعل فيها او ننفعل بتاثيراتها.
الخلاصة الثالثة : لا سياسة بدون طبقة وسطى وازنة وحداثية تحصن المجتمع من انشطارات عمودية مدمرة.
الخلاصة الرابعة: من المستحسن الحديث عن أزمة السياسة لا عن موتها. فالقول الأول مدجج بالأمل والتنقيب عن مخارج الانحباس، أما القول الثاني فيبدأ بلغة الحداد والنعي،وينتهي بمتابعة مسلسل مقرف تحت عنوان (بؤس المآل لما بين الشعبوية والتكنوقراطية من اتصال).
8) ميم ثانية : مشاء بأناقة دائمة، طعمتها بذوق بصري من تحف السينما العالمية لكبار المخرجين من عيار( فيليني+ ازنشتاين+ يوسف شاهين+ اكيرا كوروزاوا + شادي عبد السلام+ غودار…..) وعززتها باذن موسيقية مبهرة ،شكلت مصبا لجداول موسيقية متعددة العذوبة، من الجاز الأمريكي والسمفونيات الالمانية، والعتابا والميجانا اللبنانية، والقدود الحلبية، والطربيات المصرية ،والأنعام المغربية.
9) الف ثانية : أسديت لتلاميذك دروسا ممهورة بيداغوجيا المرح، فكنت مربيا لا ملقنا. لسانك مع تلميذ اليوم ،وعينك على مواطن الغد،تمرنه على مصاحبة السؤال لا على طمأنينة الجواب.وعلى تذوق القصيدة لا على استظهارها. كل ذللك بضمير مهني متقد ، واحتجاج ناعم على مدرسة فارغة الروح : الكتب فيها ميتة،واللعب مفقود،والغناء ممنوع ،والمسرح مهجور، والفرح طريح الفراش، والفكر النقدي سادر في غيبوبة مزمنة.
10) تاء : تأبين بكل معاجم الحسرة والاسى،لان الموت خطفك في غفلة منا بعد أن تأكد بان قلبك – الذي تحمل ذات زمن اسود رقيبا كان يحصي أنفاس الحبر- لن يتحمل المكوث داخل مقبع، احترازا من كائن مجهري بامتداد اخطبوطي عابر للقارات، زوبع العالم ،وقنن مواقيت الدخول والخروج، وامم التباعد الجسدي، وعولم الكمامات، ورفع من معدل الضجر والاكتئاب، وخطف من الأسر خيرة الأحباب. وبما أن الفاتورة كانت مكلفة راحة وأرواحا، ارتفع ضغط دمك إلى الحدود القصوى ليلحقك-بعد ومضة امل كاذبة- بعالم الصمت الابدي تاركا وراءك مسارا حياتيا يشهد ببسالتك ضمن كتيبة مجندة ومتمترسة في خندق لإنقاذ الفكر والابداع،والدفاع عن حقنا في مملكة الحب والخير،والحرية والجمال.
فعرفانا بجميلك ووفاء لروحك الطاهرة،سنشعل للك في ذاكرتنا جذوة متقدة تأبى الانطفاء.وسنزرع لك في قلوبنا محبة شاسعة تتحدى النسيان.
سجين محبتك الدائمة : حميد منسوم
مراكش في 31 دجنبر 2020