آخر الأخبار

عندما يكتب الشعر بقواعد النثر ( السرد )

كثير من شعرائنا المعاصرين يكتبون أشعارهم بمعطيات وقواعد ونَفَس النصوص السردية ، ويظنون أنهم شعراء ، أو يكتبون الشعر ، وهي آفة متفشية كثيرا في وقتنا الحالي ولكن لم يُنتَبه إليها ، أو لا يلحظها إلا قليل القليل من القراء والمتلقين .

معظم شعراء العصر يقرؤون النصوص السردية كثيرا ، بسبب انتشار تلك النصوص ، وسهولة التعامل معها ، وهناك من تبقى معالجته سطحية ، ومحدودة العناصر والمعالم ، فَيَشِبُّون على هذا ، ويُكثرون منه ، وبالمقابل تجد في ثقافتهم الشعرية ضَعفا بَيِّنا ، وفُهُوما مختلطة ، وحتى من يقرأ منهم الشعر لا يقرؤه بجميع فصوله وأحقابه ومدارسه ، وإنما لهم وقفات قصيرة ومتكررة مع هذا الشاعر أو ذاك من المعاصرين خصوصا ، وفي قراءتهم لا يبحثون عن المواقف الجمالية ، ولا يتتبعون الفَرَادَات الإبداعية ، وإنما هم تُبَّعٌ لأهوائهم الفكرية المرتبطة بشعارات العصر أكثر من ارتباطها بمعاني المتعة والفائدة ، وعوامل التميز على مستوى اللغة ، والصناعة الشعرية بصفة عامة .

غزارة مثل هذه النصوص ( الشعرية ) في وقتنا الحاضر جعلت الأمر يبدو وكأنه الحقيقة ، فَتَكَالَب الجميع على مائدة الشعر ، وأضحى كل من هب ودب يدعيه كذبا وتجبرا ، ويسمي نفسه شاعرا ، مع أن ثقافته الشعرية لا تتعدى حدود عصره ، أو ما قبله بقليل ، ويستحيل مثل هذا الوضع أن يُنتِج ويُكَوِّن لنا شاعرا بكل ما للكلمة من مدلولات حقيقية .

فالثقافة الشعرية التي كونت لنا الفطاحل قديما وحديثا لها طقوسها وقواعدها وامتداداتها المتداخلة والمتكاملة ، وعلى رأسها أن يكون التكوين الشعري في أغلبه عاما ، ليسهل التخصص فيما بعد بمعرفة وزاد ثقافي رصين ، وأنا هنا أشبه ثقافة الشاعر بعمل النحل حين خاطبه رب العزة قائلا : ( وَأوحَى رَبُّكَ إلى النحل أنِ اتَخِذِي من الجِبالِ بيوتا ومن الشجرِ ومما يَعْرِشُون ثُم كُلِي من كل الثَّمَرَات فَاسْلُكِي سُبُلَ ربِّكِ ذُلُلا يَخرُِج مِن بُطُونِها شَرَابٌ مُختَلِف ألوَانُه فيه شِفاءٌ للناس إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون ) ( سورة النحل : 68 – 69 ) .

كذلك الشاعر لا يمكن أن يتملك زمام الشعر إذا وقف طموحه عند فترة من الفترات ، أو اتجاه من الاتجاهات ، ففي الكثرة والتميز في المستويات الرفيعة متعة وفسحة عريضة ، وتكوين دَسِم ومستمر يعطي للشاعر الجديد وهو يخطو في عالم الشعر مواصفات النحل على مستوى الحصيلة الواسعة ، وقوة الإبداع ، وتنوع النفَس الشعري المتجدد طيلة عمره الشعري ، وفي تمثيل آخر يشبه عمل الشاعر الإبداعي مجرى ماء عذب وصاف ، يتغذى من روافد مائية وغزيرة بسيولة دائمة ، وحمولة مرجوة ومضمونة بلا اضطراب ، أو جفاف ، أو توقف .

نحن هنا لا نعادي اتجاه النثر في الثقافة العربية ، وهو اتجاه كبير وحاضر بقوة في أزمنة متعددة ، وله رموزه الكبار ، وآثاره الراقي ، وربما في وقتنا الحالي قد انقلبت الموازين عما كان عليه الحال في الماضي ، فأصحاب الإبداع النثري كانوا يستفيدون من الشعر كثيرا عبر ثقافتهم الشاملة لكل الأوجه الإبداعية حتى وصلنا إلى ما يسمى عند النقاد القدامى والمحدثين بمصطلح ( النثر الفني ) ، فقد كان مبدعو النثر يملكون من الأدوات الثقافية والفنية ما يؤهلهم لكتابة الشعر ، غير أنهم كانوا لا يجرؤون على ذلك مخافة أن تظهر عوراتهم الإبداعية مقارنة بأصحاب الطبع والزاد والقريحة الشعرية الحقيقية .

واليوم لم يعد لهذا الوازع الفني وجود في نفوس أغلبية المبدعين المعاصرين ، بل إنهم أصبحوا رُحَّالا بين كل الأنماط الإبداعية ، فتجد في أوصاف سِيَرِهم التعدد الممل ، أو الخارج عن اللياقة ، وقدرات الذات على الساحة الإبداعية ، وهكذا يصف كل واحد منهم نفسه بأنه شاعر وكاتب وقاص ومسرحي وناقد ومترجم وحكواتي……واللائحة تطول وتطمطط حتى تستغرق كل مناحي الإبداع لدى الإنسان ، وربما في قريب غير بعيد سيضيفون أوصاف النبوة ومفاهيم الاصطفاء لتلك السِّيَر الكاذبة ، ويتناسون أن المبدع الحقيقي لا يتعدد لا في نفسه ، ولا في مجاله الذي يحسنه .

وهذه الظاهرة السلبية استفحلت كثيرا بسبب معطيات زمننا الرقمية ، وتكتلات المبدعين التي أضحت في أكثرية أفعالها شبيهة بما يفعله اللصوص الذين تجدهم في كل مكان ، ويتحدون فيما بينهم على إشاعة الخوف والفوضى ، وتتملكهم رغبة واحدة وهي فعل السرقة ، وإن كانوا يجهلون قيمة المسروق ، وهل هو جيد أم ردئ .

هو الموقف ذاته يتكرر أمام عينيك حين تجد من يدعي الإبداع حاضرا ، ومشاركا مشاركة فعلية فوق منصات متعددة ومختلفة من جهة ضروب الإبداع ، ويقدم نفسه على أنه العبقري الوحيد المفوه في كل المجالات ، وله القدرة المطلقة على الشعر والكتابة والنقد والمسرح……وهلم جرا على طول الحول والعمر ، وأماكن الاحتفالات والمداخلات ، ويظهر من خلال هذا الوضع أنهم يعيشون في وهم الإبداع ، وأنهم متذبذبون بين جميع المناحي والأوجه ، وأنهم ضحية ضخامة ذواتهم ، وخلبطات مواقفهم ، وضعف تكويناتهم الفكرية والإبداعية بصفة عامة .

رحم الله المتنبي والمعري وابن الرومي وامرأ القيس والمعتمد وشوقي ونزار قباني ودرويش وأحمد مطر…….فهؤلاء وغيرهم من شعرائنا الحقيقيين ظلوا شعراء على طول حياتهم الإبداعية ، ولم يزيغوا في سِيَرهم عن الشعر وإن كانت لهم كل المقدرة على الإبداع في سياقات أخرى ، وهذا لعمري وجه جديد من معاني الإبداع المرتبطة بالمعرفة والشغف والزاد والارتباط الملائم للأهواء النفسية الحقيقية الناضجة ، على عكس من يوهم نفسه بالمعرفة المطلقة وهو لا يعرف حتى دواخله في ميولاتها الصحيحة ، فيظل متنقلا بين مجالات كثيرة ومختلفة ، ومترنحا بين قرائح متعددة لم يستطع – طيلة عمره – القبض على واحدة منها ، ومعرفتها ، وجعلها متميزة في دواخله فبالأحرى أن يدعي الإبداع على منوالها .

مراكش في : 25 أكتوبر 2020 م

الدكتور مولاي على الخاميري