آخر الأخبار

شعر الملحون و المنهج

في زوايا من الأحاديث المصاحبة لفعاليات الملتقى الأول لفن الملحون الذي نظمته جمعية منتدى الرباط لفن الملحون يومي 12 – 11 اكتوبر 2019 بمدينة الرباط أثيرت قضية التعاطي مع نصوص شعر الملحون من ناحية الدراسة والتحليل والتفاعل والكشف عن مكنونات النص المذكور الفكرية والجمالية .

وهكذا تراوحت الآراء بين مشجع في إطار الملاءمة بين النص ، وبين الآليات المنهجية الممكنة ، وبين مندفع ومتوهم للنجاح الباهر المرتقب للمنهج بقواعده المحددة والضيقة ، مقارنة مع مضامين النص الفسيحة والمفتوحة على كل الممكنات حتى ولو كانت تعلو على مقتضيات أي منهج .

ينبغي أن ننظر إلى المناهج بصفة عامة على أنها مجموعة من الآليات المحددة كما قلت ، تحتاج إلى استعمال ناجح وناجع ، ومناسبةٍ مع النص ، أو النصوص المدروسة ، مع استحضار قوي لمعارف الدارس ، أو الدارسين ، وقدرتهم على إحداث المواءمة المقصودة للوصول إلى نتائج علمية ، يُعْتَدُّ بها في مجال الاستيعاب والحصيلة العلمية ، كما ينبغي أن ننبه إلى أن كل المناهج المعرفية التي ارتضاها الإنسان في مسيرته الفكرية لم تصل به إلى الإقناع التام ، وإلى الإحاطة الشاملة من ناحية التفاعل والكشف عن مكونات النص الإبداعي المتنوع في مختلف المعارف والأدبيات الإنسانية ، وهذا في حد ذاته قصور جلي يوضح لنا الخلل الكامن والدائم في كل المناهج المعرفية التي استقاها المفكرون والمنظرون في كل العصور والأزمان .

ومع ذلك يجب ألا نتخوف من هذا الوضع المشاكس للمنهج إزاء النص الإبداعي بصفة عامة ، بل علينا أن نقتحم مع مناهجنا حضيرة نصوص شعر الملحون ، لأن في ذلك مصلحة علمية للنصوص المذكورة من أجل تقريب معطياتها المختلفة إلى القارئ المتخصص ، والقارئ العام ، ولأن النصوص التي أضحت متوفرة لحد الآن بفضل جهود الباحثين والمولعين الفردية والجماعية تفرض علينا أن نَنْكَبَّ عليها بالدراسة والتحليل إيذانا منا جميعا بدخول فن الملحون للمرحلة العلمية الثانية من عمره بعد أن أثبت نفسه بمخزوناته الهائلة الفنية والفكرية .

كذلك الأمانة العلمية تستوجب منا نحن جيل المتذوقين والمهتمين المعاصر أن نبصم بما أوتينا وما استجد في وقتنا على مستوى المعارف العلمية حتى نتمكن من ربط الصلة بمجهودات الأجداد والآباء في مجال الجمع والتثبت والدراسة والإخراج .

إن مسألة المنهج مطروحة اليوم بحدة في معالجتنا لمختلف مضامين شعر الملحون ولكن حَذَارِ ثم حَذَارِمن الاستعمال الجاف ، والادعاءات العنترية ، والتعدي على حرمة نص الملحون بدواعي العصرنة والحداثة وغيرها ، وَحَذارِ كذلك من الإحساس بِالدُّونِية الإبداعية أمام النصوص العَالِمَة والمناصرين لها بشكل يغلب عليه الغلو ، فيندفع العاشق والمتيم بشعر الملحون للإجابة عن أسئلة بعيدة كل البعد عن المنحى العلمي المناسب لفحوى نصوص الملحون ، بسبب تأثره بتلك المواقف السلبية ، فيتحول إلى مُتَسول للقَبُول والرضى بوسائل عقيمة وخارجة عن شعر الملحون ، ولا تسدي له أي شيء من الفوائد المرجوة .

ما نَوَدُّ الوصولَ إليه هو الإيمان الواجب بمحتويات نصوص الملحون من جهة الجمال والفن والإبداع ، ثم إِيجَادُ القدرة العلمية القادرة على القراءة والفهم والكشف بكل الأبعاد المعرفية الممكنة ، وعلى رأسها البعد الذاتي المتعلق بِالْهُوِية وتجلياتها وأنساقها الفكرية .

أقول هذا الكلام وأنا أجد بعض المشتغلين بشعر الملحون قد وقعوا في أخطاء قاتلة مع أنهم من ذوي الثقافة والشواهد العليا ، والسبب في نظري هو معرفتهم للمنهج أكثر من شعر الملحون ، واستخدامُهم لمختلف الآليات بطريقة فَجَّة ، تحتاج إلى الشاهد والدليل ، وظنوا بذلك أنهم فرسان وحيدون في الميدان مع أنهم في الحقيقة قد جَنَوا جِنَايَاتٍ كبرى جهلا وادعاء على نصوص الملحون………

وأنا أقولها هنا صراحة : يستحيل على المتعلمين وإن بلغوا ما بلغوا من العلم أن يتفاعلوا مع شعر الملحون بإيجابية ما لم يتوفروا على روابط ذاتية ، دفينة في الأعماق تربطهم بينابيع تراث الملحون ، ومفاهيم الوطن في تشكيلاته المختلفة والمستخلصة من حمولات الهوية المغربية المتحركة عبر كل الزمان والمكان ، والتاريخ الشاسع بعاداته وتقاليده وتكويناته المعرفية والفكرية النفسية والاجتماعية التي تكونت وتفاعلت فيما بينها ، وانصهرت في تعبيراتها وتصوراتها المتعددة والمتنوعة كما تدل على ذلك مضامين شعر الملحون الرائقة في الشكل والمضمون ، والتطورات المصاحبة لها إضافة وتجديدا .

د مولاي علي الخاميري

مراكش في : 14 اكتوبر 2019 م .