آخر الأخبار

كيف تصان حوزة مغربية الملحون؟؟

تجري الآن مناقشات عديدة ، فيها أخذ ورد حول الأصول الأولى لفن الملحون ، وكانت لي مشاركة متواضعة ضمنها ، نشرتها على صفحتي بتاريخ : 25 يونيو 2020 وتحت عنوان : (….دفاعا عن مغربية الملحون ) .

وأكيد أن هذه الجَلْبَة الفكرية ستكون لها إيجابيات عديدة ، في مقدمتها تجديد الاهتمام بشعر الملحون ، وإشاعته بين الجمهور ، وإيقاظ مجموعة من الهمم والأقلام ، والأحلام الوطنية المدفونة ، وطرح الكثير من الأفكار ، مجاراة لتخصصات الدارسين واهتماماتهم ، مما سيعني في النهاية أن المشكلة المعالجة ربما تكون سببا واعدا بنهوض شعر الملحون من كبواته المتتالية للأسف الشديد ، واستفادته من مختلف الآراء المطروقة ، والكشف عن أوجهه المعروفة والمجهولة ، ودفع كل المسؤولين والغيورين إلى التحرك بنظام واحترام جماعي يقضي على كل السلبيات والأنانيات الفطرية التي عششت طويلا ، واستحلت الوضع المزري المعيش ، ونتمنى أن يحدث كل هذا في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى .

لا يمكن أن نبخس عمل الرواد منذ سنوات الاستقلال الأولى ، سواء كانوا أفرادا ، أو مؤسسات ، ولكن الجديد الملح هو زيادة ومضاعفة الاهتمام ، والدفع بشعر الملحون للاستفادة أكثر من معطيات العصر الفكرية بالقراءة والتحليل والنظم والإنشاد ، والمطالبة بجعله ركيزة أساسية من ركائز المنظومة التعليمية ، والبنية الثقافية ببلدنا ، والتصدي بقوة وحزم لكل مواقف الخذلان والتزلف ، والابتعاد عن الأنانيات المدمرة ، أو المقاصد المبهمة والمحنطة بغايات ذاتية ضيقة ، تهدف إلى الحصول على مسؤوليات ، أو منافع مادية سخية أو ريعية .

نعترف مرة ثانية ومؤكدة أن جهودا جَمَّة قد بُذِلَت في المضمار ، وحققت بعض النتائج المرجوة لشعر الملحون…. ومع ذلك نلاحظ أن تلك الجهود المبذولة لو تخلصت من أمراض الذات المضرة ، وكانت منصفة اكثر ، ونقية أو صافية في نياتها المتحكمة لكان وضع شعر الملحون افضل بكثير مما عليه الحال القائم .

من الآفات الملاحظة على الجهود السابقة أن ساحة الملحون أقصت بقصد واضح مجموعة من الكفاءات المشهود لها بالمعرفة وحب العمل ، واستُبدلت بوجوه قد تكون بعيدة ، أو قريبة من محاريب فن الملحون ولكنها لم تكن صادقة في أعمالها ومواقفها ، وكانت تقدم مصلحتها ومصلحة المحيطين بها على كل الأهداف النبيلة المتصلة بمفهوم الوطن والهوية ، مما جعل العاملين في حقل الملحون يتحولون إلى أحزاب وطوائف متناحرة ، لم تستند على الأحقية المعرفية ، وجدارة الفكر ، والغيرة الوطنية ، فانقلب وضع الملحون ، وانتشرت في رحابه مظاهر القبح والزبونية والأنانية والعلاقات المشبوهة والمتعفنة .

اهتمام أكاديمية المملكة المغربية بشعر الملحون هو شيء جميل ومفيد جدا ، يلائم مكانة الشعر المذكور في مسارات الثقافة المغربية ، والإنجازات المنجزة تدل على عمق الوعي ، والرغبة في العمل عبر مجموعة من الدواوين التي طبعت لحد الآن ، ونحن نفهم ، أو نتفهم المعوقات القائمة ، والنواقص المشاهدة……وبالمقابل نصفق لكل مولود في الساحة وإن اعتورته بعض الهنات والأخطاء المصاحبة لكل عمل بشري بصفة عامة .

الملاحظة المثيرة هنا هي أننا عندما نستعرض الأسماء المكلفة سنصطدم بواقع مخيب للتطلعات ، فلا إضافة ، ولا تطعيم ، ولا تطوير أو تجديد ، مع أن مجال الملحون يتسع يوما بعد يوم ، وتضاف إليه جهود المهتمين والباحثين الجدد ، وتصوراتهم الرائدة ، والملتصقة برغبات التطوير ، والاستفادة من معطيات العصر المختلفة .

هذه الوضعية جمدت حركية شعر الملحون المجتمعية والمعرفية والبحثية ، وأرخت على سمائه سحبا من السواد الكثيف ، وجعلته في أذهان الأجيال الجديدة محنطا ، وكأنه كائن منبوذ ، أو مستغنى عنه في عرف الكثيرين ، وممن لهم صلة وعشق لدرره وجمالية تعبيره ، وكان الواجب هو أن نوسع دائرة المهتمين على الأقل في مدن وعواصم الملحون ، وألا يقصى منها أي قادر على العمل والإفادة ، وألا تتحول اللجن إلى هياكل صماء ومغلقة ، ينعم بخيرها الدائم أولئك الجهابذة القابعون ، والآلهة المستنيرون .

ومثل هذا الوضع يقال كذلك في حق الجمعيات والهيئات العاملة في حقل الملحون ، فهي كثيرة ومتناحرة ، وتسعى إلى تكوين زعامات ذاتية وعنترية ، لا تؤمن إلا بنفسها وبالمنافع المادية التي تحصل عليها ، بل منها من تحولت إلى ملكية خاصة للتنعيم والريع ، أما الشيوخ من النظام والمنشدين والعشاق فقد بقي حالهم متواضعا في كل شيء ، ولم يعطوا بحب وسخاء ، ولم يظفروا بالمكانة اللائقة ، وأحوالهم المشاهدة تنبيء بصمت وببلاغة عن مكمن الداء الدفين ، مع أنهم يشكلون العمود الأساس في انبثاق شعر الملحون ، ورواجه ، واستمراره ، وإظهار عجائبه الفنية والجمالية في كل اللقاءات المحلية والوطنية ، فلا تعجب إن وجدت شاعرا رصينا ، أو منشدا مفوها ، أو عاشقا متيما يتأفف الناس في ضروراته اليومية ، وتجد في الضفة الأخرى من يستفيد ، ويعرف كيف يستفيد غارقا في النعم ، وقابضا على زمام الزعامة الأبدية ، ومحدثا للتأثير السلبي المستمر في مملكة الملحون .

بعد أن نصلح كل هذه المفاسد الملاحظة ينبغي أن نفكر مليا في خطوات ممنهجة بغايات واضحة ، على رأسها حصر النصوص الشعرية ، وإحصاؤها ، وإخراجها من رفوفها وكهوفها ، فالآن وأنا أكتب هذا المقال أتساءل بحرقة كبيرة : لماذا لم يتم لحد الآن حصر تلك النصوص وجمعها بتواريخها وأعلامها وفق تسلسل زمني محدد ؟! . وهو خلل كبير مس عملنا في حقل الملحون منذ فجر الاستقلال وإلى الآن ، وسهل على الخصوم والمتربصين عملية التسلل ليحاجوننا في مكونات شخصيتنا المعرفية والفنية بمنطقهم وأهدافهم المشؤومة ، وليزاحموننا في مملكتنا الفنية الزاخرة والوسعة .

ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الدراسة والتحليل ، وإنجاز البحوث ، والتعريف بقيمة وقيم شعر الملحون ، وصور البيئة المغربية المتجلية ، وأنفاس الإنسان المغربي البسيط وهو يجري مع الحياة ، ويكابد مراراتها ، ويقتنص لحظاتها الجميلة .

علينا أن نترفع عن الماضي وخطاياه القاتلة ، ونزيل كل من يريد أن يُبقِي الحال على حاله طمعا في المزيد من الاستفادة والريع ، ولنسرع في المسير بخطوات عديدة ومتنوعة ومتكاملة فيما بينها من ناحية الأهداف الخاصة بالمشروع الفكري الوطني الذي لا ينبغي أن يقف عند رغبة الفئات المدمرة والمستفيدة .

فإذا كان الملحون المغربي هو ديوان المغاربة الثقافي والفني ، أو جزء أصيل منه فينبغي ألا يبقى حكرا على أشخاص وجماعات وجمعيات تستفيد ولا تنتج ، وتخلق العداوة والبغضاء ، وتنشر آراء تقصي ولا تجمع ، وتفرق ولا توحد ، وتعمل في إطار ناقص وخاطئ يتناغم مع الرغبة المستأسدة بكل شيء في حقل الملحون .

نحن الذين منحنا للخصوم فرصة ذهبية لمهاجمتنا ومناقشتنا في عقر دارنا ، فعسى أن يكون الغد أفضل ، وأن تكون الانطلاقة من اليوم بتصورات جديدة ومتجددة في الشكل وكيفية العمل ، وبأهداف جماعية محددة في الزمان والمكان لصالح الوطن ، وما أغلى كلمة الوطن بالرغم من كل الخيبات والعثرات ، والمآسي الواضحة في حضيرة فن مبجل ومكتنز ومعطاء ، وله التصاق قوي بذواتنا ، وبمجتمعنا وبيئتنا وأفكارنا وتاريخنا ، وأحلامنا وهواجسنا ، وثقافتنا يسمى الملحون .

الدكتور مولاي علي الخاميري
أستاذ التعليم العالي، جامعة شعيب الدكالي بالجديدة