آخر الأخبار

موقف الإلغاء موقف سلبي و ينم عن جهل و نرجسية مغلقة

مسألة التطور والتجديد لا تقتضي الإلغاء إذا جرت في موقف فكري بناء وإيجابي ، وهذه من قواعد الفكر السليم ، ومن مقتضيات التجاذب والتفاعل التلقائي حسب سُنَن الحياة المتحكمة والسائدة .

في الوسط الفكري والإبداعي المعاصر تطلع علينا بعض الدعوات ما بين الفينة والأخرى ، تَتَلَبَّسُ ثوب التنوير والمنطق ، وتتقمص دور الفهم والتثقيف ، وتدعي ما يتناقض مع كل تلك المفاهيم في جوهرها ، وتسعى للبوح ببواعث النفس المعتوهة ، وتتخذ منها ، ومما تحسنه قاعدة دائمة ، تتكئ عليها لبث سمومها في أحكام قطعية ومتناقضة ، تتأسس على كليات الرفض والقبول بدل الدرس والتحليل والتقريب والمقارنة ، وهي بذلك تجهل أن عالم الفكر والإبداع هو عالم مشترك ما بين الأجيال والأمم والثقافات ، وهو ما تتولد عنه صيرورة دائبة في الحركة ، ومَدٌّ وجزر ما بين الأنماط المتفاعلة ، وما يحصل به التجدد والتطور المطلوب في كل أوجه الحياة .

عندما تقع عيني على دعوة لإقصاء هذا العنصر أو ذاك من العملية الإبداعية العامة بحجة المعاصرة والتحديث أُصَابُ بغثيان شديد خاصة إذا كان العنصر المقصود بالإبعاد أثبت حضوره ، وتراكمت تجاربه ، وتشكل من هويات المجتمع التي انبثق عنها ، وحاز درجة الاعتراف والإشادة من كل الأجيال ، وتبوأ مكانته وسط الساحة الفكرية بمضامينه ومواقفه وأعلامه وعشاقه ومعطياته الفنية الملاحظة والمؤثرة في الوقت ذاته .

في ساحتنا الفكرية الحديثة نسمع لغطا وهرجا من أطراف لا تحسن التفكير ، وليس لها سداد في الرؤية ، فتنطلق متفوهة بأحكام الرفض والقبول داخل أنماط الإبداع المعتبرة وكأننا في سوق تعرض فيه العروض التجارية التي تقاس بمقاييس الإعجاب والثمن والنفع ، والغريب أن المدعين هنا يُنَصِّبُون أنفسهم حُكاما ، ويتحولون إلى مشرعين ومقيدين للحركة الإبداعية التي بنيت على الاختلاف والتنوع مسايرة لأوضاع الإنسان والمجتمعات .

إن قاعدة من لا أحسنه أرفضه ، ومن يزاحمني أقصيه ، ومن لا أتذوقه أدعو إلى شطبه من المحراب الإبداعي المتعدد…..ليست قاعدة صحيحة ، ولا يمكن أن تؤثر ، أو تصل إلى أهدافها الضيقة ، بل على العكس ، تُظهِر عيبا مركبا في كيفية التفكير ، وتُبنَى على نرجسية ضيقة ومريضة ، وعلى ضعف شديد في المعرفة والإلمام بقواعد الإبداع وأنماطه وتاريخه ومضامينه المختلفة .

وكم تُعَابُ مثل هذه المواقف إذا صدرت ممن لا يعزف إلا على نغمة متفردة ، وممن لا يسير ويتكئ إلا على رِجل واحدة طيلة مسيرته الإبداعية ، ومع ذلك لا يتوانى في دعواته الإقصائية المتكررة اتجاه تلك الأنماط التي لا يستطيع أن ينسج على منوالها حتى ولو دام يبدع قرونا وقرونا .

التجديد من متطلبات الحياة ، ومطروح على كل جيل ، وفي كل حٍقَب الزمان ، ولكن ينبغي أن يبنى على فوائد ، وعلى أفكار فكرية وإبداعية مقبولة ، وعلى الاعتراف بالتجارب التي أثبتت جدارتها الفنية ، وتقبلها العقل والذوق السليمان ، واستطاعت أن تبني هيكلها ، وتدلي بهويتها الفكرية والجمالبة بلغة واضحة ومؤثرة .

ولا أعرف لماذا هذا الموضوع مطروح في ميدان الزجل بسلبياته المتعفنة ، وبضيق في الأفق شديد ، وبنرجسية تشبه النزال والعراك في الحروب القديمة ، بالرغم من أن الزجل هو قالب فني جميل ، يتكون من تجارب رائعة ومتعددة ، وهو مُتَّسِع وقابل للتطويع والإضافة مِن قِبَلِ مَن يعرف قيمته ، ويحسن صناعته .

إذا كنتَ مبدعا حقيقيا لن يضرك ان تكتب على نمط القصيدة القديمة أو الحديثة ، ولن تخشى الملحون أو العيطة وبقية الأنماط التراثية التي تلتقي جميعها في المنبع الإبداعي الأصيل ، وتستظل بظلال أشجاره الوارفة ، وتجني منه ثمار التأثير والجمال والإعجاب .

فقط كن مبدعا حقيقيا ولو على نمط واحد ، واترك الأوجه الإبداعية الأخرى لروادها وفرسانها ، فَسَيُعْتَرَفُ بك إن عاجلا أم آجلا ، ولا تبني وجودك ومجدك على إقصاء الآخر ، وعلى إلغاء من لا تحسنه قراءة وفهما ، بَلْهَ إبداعا فتكن كمولود جديد يَشتَرِط أن يُبَادَ آباؤه وأجداده لينعم بحياته مفردا مبجلا ، مشارا إليه ، فهو أمر مستحيل لم يكن ، ولن يتحقق الآن ولا بعده .

والمبدع الأصيل هو من يتفرد وسط الجماعة ، ويتلألأ بضوئه حين تجتمع كل النجوم ، ويُعُرَف بعطر كلامه وروائح مواهبه في كل اسواق الدنيا ، ويحصل على ملامحه الفكرية والفنية التي تشير إليه وحيدا بخواصه ومواهبه المتميزة .

د مولاي على الخاميري / الجديدة