آخر الأخبار

علاقة محمد الفاسي بالملحون – 1 –

وأنا أقرأ ما تضمنته المقالة التي كتبها الأستاذ مولاي علي علي تحت عنوان”كيف نرفع من قيمة الملحون في المجتمع؟”، واجهتني العديد من القضايا التي تستدعي المزيد من البحث والدرس مع الاستفاضة في النقاش العلمي بغاية ظبط مفاهيمنا ومصطلحاتنا. ولكن ما أثارني بقوة ودفعني لكتابة هذه الأسطر هو ما سجله مولاي علي علي حين حديثه عن المجاهد المؤسس للبحث والعناية بالشعر الملحون، أعني الأستاذ العلامة محمد الفاسي، الذي سجل عنه مولاي علي علي ما يلي: (…يحكي عن نفسه أنه سحر بفن الملحون صدفة، فقد كان طالبا في باريس سنوات العشرينيات من القرن العشرين، وتصادف وجوده مع إرسال باشا مراكش الكلاوي لأبنائه إلى فرنسا مصحوبين بفقيه مولع بفن الملحون نظما وإنشادا يدعى بلحسن. وقد كان طلبة المغرب يجتمعون في لقاءات ودية وثقافية استغلها الفقيه المذكور للتعريف بالفن المذكور في وسطهم.)
وهذا المسجل هاهنا يحتاج منا إلى التدقيق، فهو ليس مصطلحا من المصطلحات التي قد يكون ثمة اختلافات في فهمنا لها وما نتوافق على اعتباره مفاهيمها، ولكنه معطيات تاريخية سجلها بكل وضوح في أماكن مختلفة العلامة الفاسي من الأقسام التي شكل منها أجزاء مؤلفه المعنون: (معلمة الملحون). وأود أن أقف عند نقطتين تبدوان لي رئيستين، أولاهما علاقة العلامة الفاسي بالشعر الملحون، هل حصلت صدفة كما يدعي المسجل هاهنا؟ والثانية تتعلق بشخص الفقيه بلحسن، والذي تم التعريف به باعتباره (مولع بفن الملحون نظما وإنشادا) وأنه استغل لقاءات الطلبة المغاربة الودية والثقافية (للتعريف بالفن المذكور).
1) عن علاقة العلامة محمد الفاسي بالشعر الملحون سجل في الصفحة11 من القسم 01 من الجزء 01 قائلا: (… وكان اتصالي به [يعني الملحون] منذ أيام الطفولة…)، ثم يضيف في الصفحة 19 متحدثا عن معرفته إبان مراهقته بواحد من الآليين الذين يشتغلون في الأعراس ويدعى خاي امحمد عيوش، إذ كان يتعاطى غناء الآلة الأندلسية والملحون خلال تلك المناسبات الاجتماعية، وقد كان الفاسي يجلس عنده في حانوته خلال أوقات فراغه،وذات يوم ذكر له خاي امحمد عيوش قصيدة “ذابل الاعيان” لسيدي قدور العلمي، فأعجب بها إعجابا كبيرا دفعه إلى نسخها من إملائه، فكانت أول ما نسخ من الشعر الملحون، قبل أن يعمل على جمع القصائد والسراريب والمعلومات الكفيلة بتقديم تراجم الشعراء الشيوخ، ومنها تعريفه بالسيد محمد بلحسن.
فعلى مدى الصفحتين 21و22من القسم 02 من الجزء02، وهو القسم الذي خصصه الفاسي لتراجم الشعراء الشيوخ وضع محمد الفاسي للسيد محمدبن لحسن المراكشي ترجمة، ذكر فيها أنه واحد من علماء مراكش الذين درسوا في جامعة الأزهر، وأنه كان يدرس في جامعة ابن يوسف، ويشير الفاسي إلى أن لقاءه بهذا الرجل تم في باريس لما كان هو قد توجه للدراسة في جامعة السوربون، وكان السيد بن لحسن قد حضر رفقة أبناء الكلاوي بصفته أستاذهم للغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي، ويعترف الفاسي أنه استفاد من هذا العالم العلامة الشيء الكثير في العلوم والمعارف الإسلامية، فقد سجل الفاسي أن بن لحسن (علامة مشارك في كل العلوم الإسلامية (…) وأن له اضطلاعا واسعا على الملحون وينظم فيه كما ينظم في الشعر الفصيح.). ويذكر الفاسي أنه استدعى العلامة ابن لحسن لحضور أول اللقاءات الودية والثقافية التي شرع الطلبة المغاربة ينظمونها في ما بينهم، وكان أولها ما حصل في المنزل الذي كان الفاسي يقيم به، وهو منزل يقع بين معلمتي باريس (برج إيفل) و(نهر السين)، وفي هذا اللقاء الأول قدم الفاسي أول بحث له في الملحون، ونظم ابن لحسن قصيدة تقول حربتها:
بين لاسين وتور إيفيل لاحت انوار******في عشية ليلة الاثنين نور في نور
يا نسيم الصبا للغرب عد باخبار******قل لاهل الحمرا راني جليس البدور
نستخلص مما سلف، أن العلامة الفاسي كان ذا اتصال بما يسميه الثقافة الشعبية، من خلال جمعه وترجمته للحكايات المغربية، ثم انشغاله بجمع وتوثيق النصوص الشعرية الملحونة مع ترجمتها إلى الفرنسية ونشرها في الجرائد والمجلات الفرنسية قبل وبعد لقائه بالفقيه ابن لحسنن وكانت البداية منذ الطفولة والمراهقة. وأن الفاسي هو من قدم المحاضرة للتعريف بالشعر الملحون أمام أصدقائه وزملائه من الطلبة المغاربة، وليس الفقيه بلحسن من استغل الفرصة للتعريف بالملحون والتأثير على الفاسي.
2) العلامة محمد بن لحسن الدباغ، هو شيخ الجماعة في مراكش، وأحد أبرز رواد الفكر الوطني المقاوم للاستعمار الفرنسي منذ ثلاثينيات القرن العشرين . وقد عرف باسم الفقيه الباريزي، لأنه أمضى فترة من الزمن في عاصمة الأنوار خلال العشرينيات. وقبل ذلك كان قد تابع دراسته في جامعة ابن يوسف بمراكش، ثم بدء من 1910 انتسب إلى جامعة الأزهر الشريف في القاهرة، وكان من جملة زملائه ثلة من العلماء والمثقفين الكبار الفاعلين في المشروع النهضوي العربي آنئذ.