آخر الأخبار

الإدارة القضائية وقواعد الحكامة الجيدة

قال الرئيس الأول لمحكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، في افتتاح ندوة الودادية الحسنية للقضاة، تحت موضوع  ” الأدارة القضائية و قواعد الحكامة الجيدة “،  اسمحوا لي في مستهل هذه الكلمة أن أعبر لكم عن مشاعر الفخر والاعتزاز بالمشاركة في افتتاح هذا اللقاء العلمي المتميز الذي اخترتم له أحد أكثر المواضيع راهنية وشمولية في مجال إصلاح منظومة العدالة ويثير مجموعة من الإشكالات ذات الأبعاد الدستورية والقانونية والحقوقية والتنظيمية والمهنية ويستدعي منا الكثير من الموضوعية والجرأة والوطنية.

فكل الشكر والثناء للودادية الحسنية على هاته المبادرة الهامة القيمة التي تعكس الرغبة الأكيدة والإرادة الحقيقية للأسرة القضائية من أجل الانخراط الملموس في كل المشاريع الإصلاحية التي يقودها جلالة الملك محمد السادس دام له النصر والتمكين بكل تبصر وإقدام.

والشكر موصول  لكل المشاركين والمتدخلين لإنجاح هذه الندوة الوطنية الذين سيقترحون بكل تاكيد  من خلال تجاربهم الرصينة وتصوراتهم الموضوعية  ، مقاربات متعددة لموضوع بنيوي متجدد يرتبط بتكريس مبادئ سيادة القانون والنجاعة والشفافية

لا يخفى على كريم عنايتكم أن موضوع الحكامة الذي ستنكبون على دراسة آفاقه ومناقشة عناصره وتجميع جزئياته في ارتباطه بالإدارة القضائية يعد من المحاور الأساسية الكبرى ذات الأولوية في الإصلاح، وهو حَمّال أوجه كما يقال، إذ تختلف بشأنه  المقاربات والتصورات ، ويستدعي عند الغوص في تفاصيله استحضار أدبياته ومصادره الدولية والإقليمية والوطنية وهو ما يفرض التعامل معه بمنهج الاجتهاد الخلاق والرؤية المقاصدية المتفتحة.

لا يخفى عليكم أن السياقات التاريخية والدستورية والقانونية والحقوقية لموضوع الحكامة القضائية تفرض علينا إبداء ملاحظات أساسية منها أن مصطلح ” حكامة ” أصبح من أكثر المفاهيم تداولا وحضورا في كل الخطابات والتقارير والدراسات  المعاصرة وطنيا ودوليا والذي يتم إقرانه عادة بوصف أو نعت أو بمكان أو بحال معين ‎” حكامة سياسية “، ” حكامة أمنية “، ” حكامة مالية “، ” حكامة  ترابية “، ” حكامة  افريقية “،  ” حكامة حضرية “…ألخ.

وهو مصطلح ومفهوم أصبح يكتسي بالنسبة لنا بالمغرب التزاما منهجيا وواجبا مؤسساتيا وذلك بنص الدستور وديباجته حيث اعتبره من المرتكزات الأساسية لمؤسسات الدولة وكذا بمقتضى المرجعية الملكية الإصلاحية التي حثت على تأهيل الهياكل القضائية والإدارية وتحديثها وكذا اعتماد منهج  قضائي عقلاني يستجيب لمتطلبات الإصلاح وجعل القضاء في خدمة المواطن من أجل قيام عدالة متميزة بقربها من المتقاضين وببساطة مساطرها وسرعتها ونزاهة أحكامها وحداثة هياكلها.

وهي مرجعيات تم الاستناد عليها عند بلورة مخرجات الحوار لإصلاح منظومة العدالة التي إذا لم تستند على أسس حكامة قضائية جيدة لن تؤدي الغايات المطلوبة منها.

إن الحكامة القضائية أصبحت تكتسي أهمية استراتيجية في مشاريع المجلس الأعلى للسلطة القضائية  بالنظر إلى دورها في تدعيم تدبير الشأن القضائي وتقديم خدمة عمومية للمتقاضين وفق المعايير المعمول بها وطنيا ودوليا.

حكامة تطرح إشكالات كبرى ذات ارتباط بالضمانات الحقيقية لاستقلال السلطة القضائية وبعلاقاتها التنظيمية والقانونية والواقعية مع باقي السلط والمؤسسات، ومدى تفاعلها مع المجتمع المدني والحقوقي ومدى كفاية الموارد البشرية والمادية والتقنية الموضوعة رهن إشارتها و كيفية تدبيرها لها ومدى مساهمتها في كسب الثقة العامة من خلال آليات الشفافية والتتبع والرقابة والمحاسبة.

وهي أيضا تجعلنا نضع النصوص التنظيمية والتشريعية سواء منها المسطرية أو الموضوعية المطبقة على المتقاضين تحت مجهر الفحص والتدقيق للبحث في مدى نجاعتها وجودتها وعدالتها.

كما تتيح لنا أيضا التساؤل عن دور التكوين كرافعة أساسية في مجال تفعيل المكتسبات التي راكمتها التجربة القضائية المغربية من أجل ممارسة سليمة للمهنة بكل حمولاتها الأخلاقية والقيمية.

إن التحدي الكبير الموضوع أمامنا اليوم هو توفير الآليات الملائمة والحقيقية لتجسيد هذه الحكامة، والبحث عن الميكانزمات وتوفير الشروط الكفيلة بإيجاد نموذج مغربي متميز، ينهل من التجارب الإنسانية العالمية، ويراعي في نفس الآن خصوصيات تراثنا الأثيل، ومقوماتنا الأصيلة، والتراكمات الحقوقية والإصلاحية التي عرفتها بلادنا على مدى سنوات الماضية .

لقد أولينا سنة 2019 أهمية كبرى لموضوع الحكامة من خلال تنظيمنا لدورة تكوينية لفائدة المسؤولين القضائيين في مجال تطوير المهارات وتنمية القدرات في مجال الإدارة القضائية

كما بعثنا عددا من قضاتنا في دورات تدريبية بمجموعة من الدول الرائدة  في مجال الخدمات القضائية الإلكترونية.

فضلا عن حرصنا على إتمام عدد من المشاريع الخدماتية الإلكترونية  وإعطائنا الانطلاقة لإتفاقية التوأمة مع المجلس الأعلى البلجيكي ضمن برنامج الدعم الأوروبي للعدالة ببلادنا مستهدفين من ذلك بناء ممارسات فضلى لعمل المجلس خاصة في مجال تقوية القدرات والتكوين وتعزيز آليات النجاعة وضمان الاستقلال الإداري والمالي وتكريس قيم التواصل والتحسيس.

إننا اليوم أمام فرصة حقيقية للتعبئة من أجل تكريس مبادئ الحكامة وإعادة النظر في تنظيم وهيكلة المرافق القضائية وتحديث إدارتها.

مبادئ من قبيل:المساواة بين المواطنات والمواطنين في الولوج إلى المرفق العمومي؛والإنصاف في تغطية التراب الوطني؛ بما يتلاءم والمتغيرات  الدستورية والإدارية الجديدة ببلادنا ومعطياتها السوسيو اقتصادية والثقافية، والنجاعة في  أداء الخدمات؛والجــــودة؛والشفافية،والنزاهة؛والمراقبة والتقييم؛ والمحاسبة والمسؤولية وتقديم الحساب عن تدبير الأموال العمومية؛ واحترام القانون والحياد.

وللوصول إلى ذلك لا بد من تجاوز النقائص التي تعرقلها وهي متعددة المصادر والمستويات حيث تم تشخيصها بشكل دقيق في أكثر من محطة وأعد بشأنها تقارير وطنية ودولية مما يتعين الآن الانكباب عليها بكل حزم بشكل شمولي مندمج وإرادة جادة للتعاون من أجل توفير كل الوسائل والآليات المادية والبشرية والتقنية والقانونية للسلطة القضائية حتى تؤدى الأدوار المنوطة بها خدمة للوطن وللمتقاضين.

لي اليقين أن لقاءات مثل هاته التي تجمع المهنيين في جو من الحوار البناء والمكاشفة الموضوعية تنتج دائما مجالات واعدة للرقي بالممارسة المهنية وتطوير أدائها وخدماتها وتكريس رسالتها التي نسعى جميعا إلى أدائها بكل إخلاص وتفان وضمير وحكامة.

وتأكدوا أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية ستجدونه دائما منفتح على كل مبادراتكم الجادة المسؤولة ومستعد لرصد كل الإمكانات المتاحة له من أجل عدالة قوية مستقلة مواطنة متجددة.