آخر الأخبار

السي محمد فكري يكتب عن معتقل درب مولاي الشريف – 6 –

يوميات درب مولاي الشريف ـ 6 ـ
وتتكرر الأيام بليلها ونهارها وتتابع الشهور التي لم نعد نتذكر أسماءها، فكل الأيام والشهور متشابهة، كلها عبارة عن ليل مظلم لا يأتيه النور لا من أمامه ولا من خلفه، نميز الوقت بأصوات الحراس حين تنتهي وقت حراستهم ويعوضون بآخرين، أو بصوت رئيسهم (الشاف) الجبلي وهو يزعق بلهجته الجبلية، “إعطي ليماه والا نجمعك معه بالحمار الآخر” والغريب أن هذا الجبلي نسمعه أحيانا يجود سورا من القرءان بشكل جميل، سبحان الذي جمع الخبيث والطيب في ذات واحدة.. وللإنصاف فهذا الشاف الجبلي يحرس أحيانا على نظافتنا، بين قوسين، فيسلمنا مقص الأظافر ويطالبنا بقص أظافرنا الطويلة والمتسخة وتبديل ما نرتديه من أسمال حين يرى بأم عينيه القمل يسرح ويمرح في أجسادنا، كما يقوم بتغيير الخرق الموضوعة على أعيننا بأخرى يعتبرها نظيفة، وفي بعض الأحيان يغير الأفرشة والأغطية. ومع ذلك فإن بذرة الشر وصفة الجلاد الشرس هي الغالبة في شخصه.
في إحدى الليالي أُمِر هذا الجبلي بأن يحضر أحد الرفاق للاستنطاق من طرف معلمهم الكبير، كما يسمونه، قد يكون قدور اليوسفي، أو مساعدا له يسمى الفاسي، وأعتقد أن الجبلي ومساعده الذيب، وهو أكثر خطورة منه، لأنه يعمل بصمت، يحضرون الاستنطاقات، ووجبات التعذيب..
في إحدى الليالي الباردة أخذوا أحد رفاقنا إلى مكتب الاستنطاق وحاولوا أن يكون النقاش معه فكري فلسفي فاستدرجوه ليعبر عن رأيه، بما أن الموضوع في نظره، ليس تنظيميا ولا سياسيا، وبعد إنهاء النقاش وعودة الرفيق لمكانه، جاء المجرم الجبلي ومعه مجموعة ممن يأتمرون بأمره وأوقفوه وبدأوا في تعذيبه بالسياط وهم يصرخون “دوي أولد الحرام، الكافر” ونحن نسمع ما ينزل برفيقنا من عذاب، وما يتحمله جسمه النحيل من ألم ضرب المجرمين، بصبر وثبات، أنا في تلك اللحظة بكيت وتمنيت لو أنني مت أو انشقت الأرض وبلعتني، ولا شك أن أغلبية الرفاق، أو كلهم، كان لهم نفس ردة الفعل في صمت. وأعتقد أن ما قاموا به كان مقصودا ومبيتا، الغرض منه بث الرعب ونشر اليأس والإحباط في نفوسنا.
تلك ليلة سوداء لا يمكن نسيانها.
في إحدى الليالي سمعت صراخا قويا وحين أصخت السمع جيدا تبين لي أنه صوت الرفيق الفقيد عبد السلام المودن، كان يسب ويلعن ويردد: الثورة الديمقراطية آتية يا كلاب، كان في حالة من الحالات التي بدأت تنتابه منذ ذلك الوقت، حين يرهق دماغه بالتفكير، فحتى وهو بين فكي فم الجلادين، كان يفكر في الثورة الوطنية الديمقراطية ومصير الوطن، لم يكن مهتما بمصيره الشخصي ولا بمستقبله.
بعد لحظة من هذه الواقعة حملوه إلى الزنزانة التي أتواجد بها، ومن حسن الصدف، وضعوه جنبي وبدأ الحديث معي وأطلعني على التصور الذي وضع خطوطه وبرنامج تنفيذه، والذي انبنى على ثلاثة محاور:
المحور الأول، تكوين جبهة وطنية عريضة من القوى التقدمية والاتفاق على برنامج للثورة الوطنية الديمقراطية، لإنقاذ البلاد من وضعها المتأزم.
المحور الثاني، إعادة بناء الذات وجمع شمل التنظيم الذي تلقى ضربة قوية من جراء القمع وبسبب الاعتقالات التي تعرض لها. بحديثي في ذلك اليوم، مع رفيقي المرحوم عبد السلام، بومارس، ارتفعت معنوياتي وازددت تشبثا بالأمل وثقة في المستقبل.. تحية لروحك الطاهرة رفيقي بومارس.
تحدثت عن حراس المسلخ، السيئين منهم، والأكثر سوءا والأشد قسوة، والمقام يقتضي الحديث عن بعض الاستثناءات، وهنا أشير إلى أحدهم أطلقنا عليه (الفلاح) كان ظاهرة فريدة في دار جهنم التي مررنا بها.
الفلاح، قليلة هي المرات التي حرس فيها بالمكان الذي كنت أتواجد به. كان يقول لنا أنا أصلي فلاح أرعى غنمي وأشذب أشجار زيتوني وقد تواجدت في هذا المكان، رغما عني، لن أضركم ولن أنفعكم ولكنني أتعاطف معكم وأرى فيكم أبنائي وإخوتى، كل ما أستطيع فعله في هذه الساعات التي أتواجد فيها معكم، هو أن أترك لكم حرية الكلام مع بعضكم البعض وتخفيف البانضة عن أعينكم، وكان هو يحرسنا خوفا من أن يرانا الجلادون السيئون، ونحن بدورنا نخاف عليه ونحرص أن لا يمسه سوء بسببنا. تحية لهذا الإنسان الذي لم يستطيعوا قتل بذرة الإنسانية داخله، وتحويله إلى وحش كاسر. فسلام عليه حيا أو ميتا، إن كان حيا أتمنى له الصحة والعافية وطول العمر، وإن كان ميتا عليه الرحمة والسكن في جنة الرضوان.