آخر الأخبار

الـمــنــحــى الــمــعــاكــس

سـعـد سـرحـان

كان محلاًّ غُفلا. إذا مررت به مغلقا فهو دكان، محض دكان. وإذا كان مفتوحاً، فلن يأبه لك الكهل الذي يقرفص في صدره، فعيناه على الإبرة والكشتبان، ولا يرفعهما إلا ليحدج أحد صبيته المتهاونين.يكتري الرجل الدكان بثمن زهيد، ويشتغل مع نساء الجوار، يفصل لهن الثياب أو يرفوها، ويخيط لهن فساتين المناسبات، ويلقن الحرفة لصغار الرؤوس من أبناء الحي، ويطرب الحي بأم كلثوم. فإذا كان يوم الجمعة، استيقظ الرجل متأخرا، وقام بالإجراءات اللازمة للمسجد. وبعد عودته يتناول الكسكس وينعم بكسل القيلولة. وإثر صلاة العصر ييمم، في جولة شاسعة، شطر جنان السبيل أو عرصة مولاي عبد السلام أو صهريج الصواني…ولأن حياة سعيدة كهذه لا تعدم من يتربص بها، فقد توصل خياطنا الطيب، ذات صباح، باستدعاء إلى المحكمة. ولدى مثوله أمامها أمروه بإفراغ المحل بعد أن أسمعوه فصولا بأرقام وبنودا بأخرى. الرجل الذي لا يعرف عن القضاء سوى أنه صنو القدر، استسلم لقدره وعاد إلى الدكان، فجمع أغراضه وسرّح الصِّبية… ثم سلم المفتاح لصاحبة المحل.أياما قليلة بعد النكبة، وبينما صاحبنا ينهي العمل في ملابس بعض زبوناته، طرق باب بيته أحد صبيته ليخبره أن دكانهم تم احتلاله. خرج الرجل لا يلوي على شيء، وإن هي إلا لحظات حتى وجد نفسه أمام ” استوديو النيل” وهو يرشح عَجْرَماً. فرك عينيه جيدا، فتأكد من أن الدكان دكانه وأنه تعرض لعملية نصب تستوجب الرفع.. فقرر أن يخوض حرب الجلاء، إن لم يكن لأجله وأجل صبيته فإكراما للست.سأل واستفسر واستشار واستقصى حتى أيقن. أيقن صاحبنا أن للقضاء الإلهي صنواً يقال له القدر أما القضاء البشري فله شقيق اسمه القدر فيه تطبخ الملفات والقضايا على نار تناسب كل واحد منها، وكل ما سمعه من فصول وأرقام وبنود… فهي كنايات عن البهارات والصلصات والمنسمات… في محيط المحكمة، ومقابل ورقة نقدية محترمة، وجد من السماسرة من أسرّ له اسم محام متخصص في قضايا الإفراغ، وهو المحامي الذي أوكل إليه، بعد الله، أمره.” استوديو النيل” ابن شرعي للمؤامرة، تنزل من بين صلب الطمع وترائب الجشع. فأحد شباب الحي، وهو مصور هاو ، اتصل بصاحبة المحل وحرضها بإغراء من رفع سومة الكراء. وحين آل إليه، كسا جدرانه بصور النجوم وجهزه بغير قليل من الأكسيسوارات : قبعات، مراهم، نظارات، مسدسات بلاستيكية ، أحزمة فظة، أساور وأقراط غريبة… فصار المحل محجاّ للجيل الجديد، يقصده الفتيان والصبايا ليخلدوا أنفسهم على هيئة قراصنة ورعاة بقر.. ومراراً في وضعيات يندى لها العنين. ولعله النجاح، أو لعله جوع مزمن هو ما جعل “استوديو النيل” لا يغلق أبوابه حتى أيام الجمعة.بسرعة غير متوقعة انتزع المحامي حكما لصالح موكله. فعاد الخياط إلى محله معززا مكرما ومزغرَدا عليه.عاد الخياط والصبية والقفاطين وأم كلثوم. حتى الشحّاذ الأعمى عاد. فآخر مرة شوهد مارّا بالمحل كان يغض السمع ويغذ السير ويحوقل بصوت مسموع. أما الآن فصار يمر متئدا كما لو أنه يتشرب صوت الست، الصوت الذي كان صدقة جارية من الخياط جازاه الله عنها عودة مظفرة. أنزل الخياط اللوحة من فوق الدكان، وأرسل في طلب من رسمها، وهو أحد أبناء الجوار، وأمره بأن يدفن النيل بما يكفي من الرمال، وأن يغرس فوقه نخلتين شاهدتين، أما الصبية المتعجرمة فأمره بأن يزيل من يديها آلة التصوير وأن يلبسها قفطانا تقليديا وأن يجمع شعرها إلى الخلف بشكل دائري وأن يضع في يدها منديلا.. ثم عادت اللوحة إلى مكانها وهي تحمل: “خياط الموزمبيق” .لم يستتب الأمر للخياط طويلا، فبعد أسابيع قليلة عاد المصور بأمر قضائي. أنزل اللوحة وجاء بالرسام وأمره أن يعيدها إلى ما كانت عليه وأن يضيف بعض الأهرام إلى جانب زرقة النيل نكاية بالتاريخ والجغرافيا وأم كلثوم وأم الدنيا. عاد المصور وعاد القراصنة ورعاة البقر والعجارمة واختفى الشحاذ الأعمى.ثم اختفى المصور وعصبته وظهر الخياط وصبيته، فظهر المصور وتعجرم الاستوديو فاختفى الخياط وصمتت الست، ثم ظهر الشحاذ واختفى ثم ظهر… فصارت حكاية سار بذكرها الخرسان.وحل الرجلان ضيفين على برنامج ” المنحى المعاكس ” الذي تبثه ” قناة الأرخبيل “، يتوسطهما المذيع المفوه ( وقد سمي كذلك لأن له فاهاً / فوهة لا تكف عن تأجيج نار الخلاف ). لن أسهب في الحديث عن تلك الحلقة، فوحدهم الموتى لم يشاهدوها. لكني أود أن أنوه بذكاء القناة التي خصصت فواصلها الإعلانية للقفاطين وآلات التصوير، كما أود أن أشير إلى العدوى التي انتقلت حتى إلى العاملين بها . فقد نمى إلينا أن مخرج البرنامج وطاقمه هرعوا عند نهاية الموقعة إلى تهنئة المصور فيما عانق معد الملابس الخياط بحرارة.ومنذ تلك الليلة انقسم العالم إلى فسطاطين : فسطاط الخياط وفسطاط المصور.أما الذين فاتتهم مشاهدة الحلقة من الأجيال اللاحقة، فإنه سيظل يعاد بثها حصريا على قنوات أرض الواقع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.