آخر الأخبار

كـــــراس

سعـد سـرحـان

” العبث”
عدا كرسيين يشغلهما عجوزان، فإن كل كراسي المسرح فارغة. هكذا يفاجئنا يوجين يونسكو في مسرحيته “الكراسي”. وحين سئل مرة عن الأمر، جاء رده عميقا. فقد ضرب مثالا بأن الكأس إذا كانت بها قطرتان من الماء، فإنها تبدو أكثر فراغا مما لو لم يكن بها ماء أصلا. وهو المثال الذي يلخص، ليس فحسب، ما ذهب إليه في مسرحيته، وإنما يتعداها إلى الكثير من مناحي الحياة. على ذكر الحياة، هل تحتاج هي الأخرى إلى شاهدين على أنها أكثر عبثا من مسرح يونسكو ؟.
الكرسي والشمعة
نسيت الفتاة أن تطفئ الشمعة قبل أن تستسلم للنوم، فاستيقظت على حريق لم تنج منه إلا لتجد نفسها في جحيم حقيقي. فقد أرغمتها جدتها على تأدية ثمن كل ما التهمته النار. ولأن الصبية لا تملك غير جسدها، فقد ارتأت الحيزبون أن تحول بضاضته إلى بضاعة تعرضها في ليالي القرى المجاورة على نزوات شبابها وتتقاضى مقابلها أجرا تحدده سلفا. أحد شخوص الرواية يحكي لنا عن ليلة من تلك الليالي، وعن لحظة دخوله على الفتاة بعد أن انتظر طويلا قبل أن يأتي دوره. ويبدع في وصف ذروة الألم وقد وافقت ذروة الشهوة في تقويم العرق كما في تقويم الحليب، وكذا في وصف تداخل صوت الجسد وأنين الروح فوق سرير يأبى أن يحترق، مع أن التي تتسجى فوقه ليست هي الأخرى سوى شمعة منذورة لفحولة الكبريت.قصة الفتاة وجدتها الشيطانية يوردها ماركيز ضمن رائعته “مائة عام من العزلة”. ولأنها غزيرة الدلالات، فإنه يعود إليها بمزيد من التفصيل والتشويق ويصدرها في كتاب مستقل.تكاد الفتاة في هذه القصة أن تكون رمزا للعالم الثالث.فهي كحفيدة تأتي في الرتبة الثالثة بعد الجدة والأم. وكصبية فهي نموذج البضاضة والفتنة… أما الشمعة، وهي رمز التخلف في هذا المقام، فإنها توأم الفتاة التي سيكون عليها أن تكفر عما اقترفته الشمعة بحق البيت بأن تضيء ليالي القرى بذبالتها التي تتغذى من زيت الروح. لذلك، فإن أي هفوة منها كان لابد أن تقابل، كما يقابل العالم الثالث، بأبشع استغلال… وذلك، طبعا، مع سبق الإكراه والتربص.لكن، أين هو الكرسي؟ الكرسي الذي لا يحتاج إلى تأويل.لقد نسيت أن أخبركم بأن الجدة، وهي تسعى بحفيدتها بين القرى، كانت تتربع على كرسي متحرك يدفعه أربعة رجال تؤدي لهم أجورهم مما يدره لحم الصبية.
عرش الموت
كان ملك الحبشة “كاميهاميها الثاني” معروفا بميله للتحديث وانفتاحه على الحضارة المعاصرة. فحين سمع عن اختراع الكرسي الكهربائي الذي يسهل عملية الإعدام، أمر باقتناء ثلاثة منه، مهما كان الثمن.وبعد مدة وصله خبر وصول الكراسي، فخرج وحاشيته لاستقبالها في الميناء. وما إن تم إنزالها حتى أمر بتجريبها وذلك بإعدام شخص ما. وهو الأمر الذي لم يحصل، ليس لسماحة اعترت جلالته فجأة، وإنما بسبب عدم توفر الحبشة على الكهرباء. وليس من عجب بعد ذلك أن يكون الملك قد أمر بتحويل أحد هذه الكراسي إلى عرش من عروشه.هذه القصة أوردها المفكر المغربي محمد جسوس ذات ندوة عن التعليم بالوطن العربي، كون نظمنا التعليمية مقتبسة من خارج كياننا وحضارتنا… وبالتالي فهي لا تختلف عن كراسي الحبشة.تذكر قصة ملك الحبشة بقصة أكثر شهرة وهي المعروفة بثياب الإمبراطور. فكما أن هذا الأخير لم يجد من بين حاشيته من يملك سبابة صادقة وجريئة تشير إلى عريه، فإن الأول لم يجد من بين زبانيته من يوفر عليه وعلى ميزانية البلد ثمن كراس هم في أمس الغنى عنها.ثم ألم يكن جديرا بملك مولع بالتحديث والانفتاح أن يسخر ولعه هذا في سبيل الحياة، حياة شعبه، وذلك بتوفير الكهرباء مثلا، بدل تسخيره في تحديث الموت ؟.
كراسي طيفال
لقد نجح الإنسان في استنساخ الحيوان، وهو الآن منهمك في وضع اللمسات الأخيرة على الطبعة الأولى من الإنسان التي ستنزل قريبا إلى الأسواق. لكن ما أشك فيه هو قدرة البشر على استنساخ الجماد والنبات. فإذا كانت الطبيعة بكل عبقريتها وثرائها لم تنجب حجرا يشبه حجرا أو شجرة تشبه أخرى، فكيف يتأتى ذلك للإنسان؟ يختلف الاستنساخ عن الصناعة في وتيرة الإنتاج. ففيما تمكن هذه الأخيرة من إنتاج ملايين الملاعق المتطابقة وآلاف السيارات المتشابهة وتوائم لا تحصى من المصابيح والصنابير والأقلام والكراسي. لا يستطيع الاستنساخ أن يوفر إلا نعجة واحدة بعد سنوات من البحث وملايين من الدولارات، وهما المدة والكلفة اللتان ستتضاعفان إذا ما كان الأمر يتعلق بطاغية سولت له نفسه الأمارة بالرعب أن يمول، من بيت مال الشعب طبعا، مختبر أبحاث مقابل استنساخ نفسه، حتى إذا غاب عن الدار الدنيا ترك من يرعب أحفاد رعيته.لا نستطيع أن نمنع الطغاة من الاستنساخ، ولا أن نجرد كراسي السلطة من جاذبيتها الشديدة. لذلك، فإننا نتمنى فقط على العلماء أن يستنسخوا أنفسهم أو عشيقاتهم أو لا أحد، بدل أن يعيدوا علينا شريط الطاغية من النطفة حتى جنازة القرن. كما نتمنى على شركات الكراسي أن تنتج لرجال السلطة نوعا جديدا: كراسي طيفال.