آخر الأخبار

فـم الإنـسـان .. وحـقـوق الأسـنـان

سـعـد سـرحـان

تـقـديـم: بعد الكسكس، والشاي، و”الكولا”، وضريبة الثلج.. آثرالأستاذ سعد سرحان أن يتطرق في مقاله الجديد إلى الأسنان، فكثيرا ما نتكلم عن حقوق الإنسان، لكننا لا نعطي لحقوق الأسنان حقها،وكأننا لا نعرف إلى أي حد هي في صلب المسألة الديمقراطية..
الممرضة هي ابتسامة العيادة، الابتسامة الناصعة تماما مثل وزرتها الناصعة، والتي لم أملك، لحظة دخولي، أن أرد بأنصع منها بسبب أسناني التي تخذلني في هكذا مواضعات اجتماعية، فاكتفيت بأن هززت رأسي، وتقدمت باتجاه قاعة الانتظار حيث انتبذت مقعدا مقابلا لمكتبها، حتى يتسنى لي التملي بالبياض المترف الذي إن عاجلا أو عاجلا سيفترُّ عنه ثغري، حين يصبح لي ثغر طبعا.على الجدار المقابل لي علقت لوحة أنيقة كتب عليها بخط بارز « Ayez le sourire »، وهي دعوة لطيفة استجبت لها في داخلي فقط، شأني في ذلك شأن الكثيرين ممن ارتادوا هذه العيادة.لم يكن أمر الانتظار يشغل بالي كثيرا، فالطوابير التي انتظمت فيها أمام الإدارات والمكاتب بشتى أنواعها أعطت لأعصابي مناعة تكف عني ضجر الوقوف والتقدم ببطء من يملك أكثر من عمر، فكيف وأنا جالس وأمامي طاولة مثقلة بالمجلات والكتب. إن ما يشغل بالي حقا هو ذلك الصوت المنبعث من الداخل، الصوت الذي تقشعر له الأسنان، والذي جعلني أندم على نزاهتي، كوني لم أخبر الممرضة بأن الدكتور صديق لي.تناولت مجلة وبدأت أقرأ. لم أكن أقرأ طبعا. كنت أتصفح فقط، وأمنِّي النفس بأسنان كالتي ترصع الصفحات. تذكرت الأسنان التي كانت لي قبل أن يتمكن التبغ من دمي، وكيف كان لي أنا أيضا ثغر يفتر قبل أن يصير إلى كهف صغير عند سفح أنفي. كما تذكرت الكيلومترات العديدة التي قطعتها النار، سيجارة سيجارة، إلى رئتي، والسعال الدموي الذي أقلعت على إثره عن التدخين بعد محاولات سابقة باءت كلها بالعودة إليه.ولكم ضحكت في داخلي حين تذكرت حماسي لتأسيس جمعية أطلقت عليها بيني وبين نفسي اسم “جمعية الرفق بالهواء” والتي لن يضم ملف عضويتها أكثر من وثيقة واحدة هي عبارة عن صورة بالأشعة السينية للرئتين مختومة بعبارة الاطمئنان المعروفة: R.A.S..بين الفينة والأخرى، كان الصوت يخفت أو ينقطع، فيغادر شخص ويدخل آخر، فأحس بدوري يقترب. أتصفح المجلة بجدية أكثر، أضعها فوق الطاولة ثم أتناول أخرى. أقرأ العناوين وأقف أحيانا عند بعض الفقرات: جمعية أطباء الأسنان نددت في مؤتمرها الأخير بوجود “صانعي الأسنان” كونهم لم يتلقوا أي تكوين علمي، ومع ذلك فهم يزاحمون الأطباء ويقتسمون معهم الزبائن. وللأمانة الأدبية فإن “صانعي الأسنان” التي استعملت قبل سطرين هي من عندي، فقد سبق لي أن قرأت لوحة فوق باب أحد الدكاكين مكتوب عليها “صانع أسنان”، أما في المقال الذي قرأت في العيادة، فإنهم يستعملون عبارة “Les mécaniciens dentistes” ليس استخفافا بالزملاء فقط، وإنما بزبنائهم أيضا.في مقال آخر قرأت عن أحدث مبتكرات طب الأسنان: ألياف الليزر، وهي الألياف التي يتم كي الأسنان بها بعد الانتهاء من الكشط فلا يعاودها التسوس أبدا. وكأن “آخر الدواء الكي” وجدت لها منفذا إلى داخل الجسد. قبل أن يصل دوري كنت قد تصفحت كل المطبوعات التي فوق الطاولة وأخذت فكرة عن محتوياتها، وهي جميعا تتخذ الأسنان موضوعا لها.ولقد خطر لي أن أكتب أنا أيضا عن الأسنان، على أن أتطرق فقط إلى ما لم تتناوله المطبوعات تلك. ولكي تكون كتابتي طازجة، قررت أن أكتب في قاعة الانتظار وتحت تأثير ذلك الصوت المنبعث من الداخل، خصوصا أن زياراتي سوف تتكرر بسبب الترميم الكثير الذي يحتاج إليه فمي والذي كان سيبدأ بعد لحظات، ذلك أن الممرضة أشارت إلي: تفضل، إنه دورك.في الزيارة التالية، جئت متأخرا حتى يتأخر دوري. كما حملت معي دفترا صغيرا وقلم رصاص. وبدل أن انخرط في القراءة أو التأفف كما يفعل الآخرون، فقد انهمكت في الكتابة متعمدا إبداء اختلافي. ولأنني لا أملك موهبة الكتابة (ولا أية موهبة أخرى) فقد ارتأيت أن التنطع هو أحسن سبيل لدخول الميدان. هكذا فكرت أن أخصص هذه الزيارة لموضوع “الأسنان مؤسسة”، فشط ذهني بعيدا بسبب هذا العنوان الموفق والذي لم أكن أملك من الموضوع سواه: فهذه العيادة التي أتخذ قاعة انتظارها مكتبا لي، وتلك الممرضة التي يستفزني بياضها الغزير، وهذه المجلات التي تبتسم صفحاتها بثقة مبالغ فيها… مدينة جميعا بوجودها للأسنان.إن الأسنان رغم صغر حجمها، وهشاشتها أحيانا، تعتبر حجر الزاوية لأكثر من مؤسسة. كما تعتبر هي اللبنات الأساسية والوحيدة التي تنهض عليها الكثير من الشركات. فما جدوى كليات طب الأسنان وشركات معجون الأسنان العالمية، ما جدوى أدوية الأسنان وبرامج التوعية للوقاية من التَّسَوُّس، ما جدوى كل هذا وغيره كثير لولا الأسنان؟إن الإنسان حيوان باسم ولا أقول ضاحكا حتى أميزه عن تلك الثدييات التي صار ضحكها ماركة مسجلة، أما الأسنان التي تؤمن له الابتسامة فهي نفسها التي تقف خلف ابتسامة الكثير من المؤسسات والشركات والرساميل…وإذا حدث أن اختفت الأسنان فإن العالم نفسه سيصبح أدرد.وتوالت الزيارات وفي كل مرة كان الدفتر الصغير يزداد اعتدادا بنفسه. أما الصوت المنبعث من الداخل فأصبح أليفا بل صار بمثابة الموسيقى المرافقة لما أكتب. ولقد انسجمت تماما مع دور الكاتب إذ لم أعد آبه لوشوشات الزبائن من حولي. ولم يعد ينتشلني من شرودي سوى: تفضل، إنه دورك.ولقد أسفرت زياراتي المتكررة، زيادة على ابتسامة تشي بوجه كاتب، عن أوراق كثيرة اعترف أنها ليست كلها صالحة للنشر، لذلك أكتفي منها بهذه النتف:إذا كانت أسنان المشط رمزا للمساواة فإن أسنان الإنسان رمز صارخ للفوارق الاجتماعية، ليس بين الأفراد وحسب وإنما بين المجتمعات أيضا. صحيح أن الإنسان يولد من دون أسنان، وفي ذلك حكمة إلهية لا تخفى على أولي الألباب، وصحيح أيضا أن الجميع ينعم بأسنان الحليب في بداية حياته. لكن، بعد تغييرها، يبدأ دور المجتمع في تحديد ما ستكون عليه الأسنان الجديدة. فالثقافة والماء الشروب والصراع الطبقي وحقوق الإنسان والتغذية والديمقراطية… كلها تتدخل في الصورة التي سيكون عليها فم الإنسان. إن الأسنان هي واجهة الإنسان، فهي أول ما يطالع المرء من الوجه باشًّا كان أو مكشِّرا. وهو أمر توليه الدول المتقدمة أهمية بالغة لدرجة تخال معها أن الناس يكبرون وتكبر معهم أسنانهم الحليب، حتى أن الواحد منهم قد يكشر فيبدو باسما.في العالم الثالث (وهو الترتيب الذي لم يأخذ بعين الاعتبار أعماق المحيطات والبحار) ينتقل الإنسان مباشرة من أسنان الحليب إلى أسنان القهوة. ففي الطفولة يسلك التسوس إلى الأسنان الطريق الذي عبده غياب التوعية وتعاطي الحلويات وعدم المتابعة الصحية من طرف الآباء، حتى إذا كبر الأطفال ولم يجدوا ملاعب وأندية وحدائق يفرغون فيها فائض قوتهم وحيويتهم، فإن المقاهي الفاغرة أفواهها تستقبلهم بالتبغ والقهوة (وليس بالتمر والحليب) وسيتكفل ترددهم عليها بتفحيم أسنانهم. أما إذا استطاع المرء أن ينجو بأسنانه خلال المرحلتين السابقتين، فإن وقفة احتجاجية منه أو إضرابا في الكلية أو مظاهرة للمطالبة بالعمل قد تقوده إلى أحد المخافر حيث القبضات المتخصصة في كسر الأسنان. هكذا يساهم المجتمع في جعل أسنان المواطنين عبارة عن بناء عشوائي جدرانه ملطخة بالفحم ومعرض للانهيار في أي وقت.في الدول المتقدمة يبتسم المرء فإذا أسنانه مرصوصة بعناية كما لو أنها في حُقٍّ للمجوهرات، وهو ما يجعلنا ندرج الأسنان في قائمة الأحجار الكريمة. ومن كان يشك في كرمها، فليسأل كم تكلف زراعة السن الواحدة، وما عليه إلا أن يضرب المبلغ في عدد أسنانه، ليكتشف أن الرصيد الذي في فمه، إن كان له رصيد طبعا، يفوق رصيده البنكي إن كان له رصيد أصلا. ونظرا لأهمية الأسنان في المحافل والمنتديات، ولدورها المشهود في حل المنازعات وتعبيد الطرق إلى القلوب والجيوب، فإنها تستحق تنظيم عروض لها في مختلف البقاع، فتشهد الدنيا عروضا للأسنان على غرار عروض الأزياء وهو ما سيعود بالنفع على أكثر من جهة وعلى أكثر من صعيد.إلى عهد قريب كانت عبارة “الضحكة الصفراء” عنوانا للرياء والخبث والنفاق، وهي صفات تتنافى تماما مع البراءة التي يرمز إليها الأطفال، فكيف تسربت الصفرة إلى ابتساماتهم؟ لقد بدأت الأوساط الميسورة، والمتعلمة منها عل الخصوص، تولي الأسنان بالغ الأهمية، فإذا أبناؤها ينعمون بأسنان مسيجة بأسلاك ذهبية، وهي الأسلاك التي تعمل تدريجيا على تقويم أي اعوجاج يكون قد طال ما بعد أسنان الحليب.وإذا كان البعض يعزو انتشار الظاهرة إلى رغبة بعض الميسورين في إضفاء مظاهر الثراء على أبنائهم، فإن آخرين يرون أن الظاهرة تنم عن ذكاء اجتماعي وبعد نظر سيؤتيان أكلهما في القادم من السنوات، ذلك أنها جزء لا يتجزأ من إعداد الأبناء إلى مناصب محترمة. فبعد تخرجهم من المدارس والمعاهد الخاصة ستكون أسنانهم بمثابة شهادة عليا تضاف إلى ملفاتهم، فلا يعقل أن يتقدم المرء إلى وظيفة محترمة بأسنان شعثاء.بعض حديثي النعمة لجأوا أيضا إلى الأسلاك إياها لتعبيد منعرجات أسنانهم حتى بعد أن شبت عن الطوق. لذلك فهم لم يسلموا من ألسنة زملائهم القدامى في ضيق ذات اليد، فصبوا عليهم جام نكاتهم التي يختلط فيها الحسد بالسخرية والشماتة، حد أن بعضهم يتساءل كيف لا يصعق التيار الكهربائي زوجا (couple) في لحظة حميمية بفعل الأسلاك تلك.ومع أنني أملك أسنانا لا سلكية فإن ظاهرة الأسنان السلكية تثير اهتمامي ليس باعتبارها مظهرا وإنما بوصفها مؤشرا على تحولات عميقة بدأ يعرفها المجتمع. وإنها لظاهرة تستحق الدراسة من طرف علماء الاجتماع والمستقبليين. وإذا كانت العلاقة بين الأسنان والمستقبل غير واضحة، فإن التفاتة منا إلى أصل الظاهرة سيرفع، لا محالة، كل التباس. ففي العشرينات من القرن الثامن عشر اهتدى أحد الأطباء الفرنسيين إلى طريقة تقويم الأسنان بأسلاك ذات صفيحات معدنية. ومن يومها والأسلاك تلك تعرف التطور تلو الآخر بفضل التقدم الذي يطول صناعة المعدات الطبية، إلى أن صارت ما هي عليه الآن. وإذا أضفنا إلى ذلك أن نهاية نفس القرن شهدت الثورة الفرنسية، جاز لنا القول إن الطبيب السالف الذكر كان يهيئ أسنان مواطنيه لعهد جديد. فهل نعتبر الأسنان الناصعة لأطفالنا والأشعة الذهبية المنبعثة منها إعلانا فصيحا عن صباح مشمس انتظرناه طويلا كي نقول: صباح الديمقراطية أيها المجتمع.إن معظم حقوق الإنسان مرتبطة بأسنانه حتى أن لا ديمقراطية بدون حقوق الأسنان. فالديمقراطية الحقيقية تبتسم في وجه المستقبل بأسنان منبثقة من لثة المجتمع المدني. أما الديمقراطية الدرداء، فإنها تستعير لها طقما من أحد صانعي الأسنان، لتأخذ لها صورا باسمة وسط مجتمع تكتشف بعد تحميض الصور تلك كم كان عابسا.