آخر الأخبار

أحمد طليمات : في القلوب منازلٌ تَعْمُرُها ذكراك

عبد الإله بلقزيز

مَرْزِئَةٌ ثقيلةٌ هي تلك المَرْزِئة التي نزلتْ علينا برحيل الفقيد الكبير أحمد طليمات، في الثّالث والعشرين من نوفمبر 2020، وهو في عافيةٍ من عطائه الأدبيّ الثــّرّ؛ معتكفًا في معتَكَفه المرّاكشيّ الذي لا يكاد يبارحه أو يُقايضُه بمكانٍ آخر في الأرض.
مَرْزئةٌ هي للثّقافة والأدب والإبداع في بلادنا أن تفقد عَلَمًا من أعلامها النَّقاريسِ الجِلاد، من الذين غرفوا من معينِها من غير حدود، وصَبّوا في ميازيبها مياهَ قرائحهم، غيرَ آبهين بالممنوع والممتنعِ، ولا مبالين بالمَحْل والضُّرِّ،صابرين على اللَّأْواء، مُتَوقِّلين في المَصَاد الصَّعب، راكبين أهوالَه غير هيّابين. كنتَ لا تجده إلاّ حيث يلتئم لأبناء الثّقافة شملٌ: في نادٍ سينمائيّ، أو أسبوعٍ ثقافـيّ، أو مهرجان مسرحيّ، أو ندوةٍ عامّة. وحتّى حين تلتقيه في مقهًى فتجالسه حينًا من الوقت، تكون الثّقافةُ ويكون الأدب ضيفيْن على الجلسة يُلقيان على الحديث شُؤْبوبًا من الطّراوة يَعْسِل عليه قَطْرَ الشِّهاد، ولِيُسيغَه في النّفس…
مَرْزئةٌ هي للتربيّة والتّعليم أن يفقدا واحدًا من رجالاتهما الأفذاذ الخُلَّص؛ ممن نذروا أنفسَهم جُنْدًا في معركة تصنيع المستقبل. عليهما كان التّعويلُ، عند الفقيد أحمد، وإليهما مُنْصَرَف الهِمّة والجَهْد والتّفاني ونكران الذّات التي لم يذَّخر منها ما يَبْخل به عليهما من مورِد. كان صاحبَ رسالة، في هذا الباب، بأتمّ ما تضويه الكلمة من معان. ومن جُبَّة هذا المربّي والأستاذ خَرَج العشراتُ من أدباء مرّاكش ومثقّفيها، وتكوّن المئات الآخرون ممّن قُيِّضَ لكثيرين منهم أن يحْتازوا أعلى الشّهادات، فيستأنفوا ما دشَّن العَملَ به أستاذُهم الذين كان لهم المثالَ والقدوة، الذي به يكون الاحتذاءُ وتكون الأُسوة…
مَرْزئةٌ هي للنّضال وللوطن والدّيمقراطيّة؛ حيث الفقيدُ، الذي من سلالةٍ كريمة، بَثَّ روح هذه القيم الثلاث في عشيرته الأقربين فأنجب أسرةً من الإخوة الأصغر سلكت على هذه الدّرب، وتقلّبتْ فيها، وانْتَكَبَتْ منها أحيانًا بالأسْر والاعتقال، وما بدّلتْ تبديلاً. وإذْ كان فيها الفقيد من الرّعيل الأوّل لِ “منظّمة 23 مارس”، وعضوًا في اللّجنة المركزيّة لِ “منظّمة العمل الدّيمقراطيّ الشّعبيّ”، لم يتحمَّلِ المثقّفُ النقديُّ الحرُّ فيه أن يتآلف مع مناخ السّياسة وأهوائها، فانسحب من أطرها التّنظيميّة في هدوءٍ ومن غيرِ جَلَبَة؛ لكنّه أبدًا لم يَحِد عمّا آمنَ به من قيمٍ وطنيّة وديمقراطيّة قَيْدَ أَنْمُلَة؛ بل بقي يشدّ عليها بالنّواجذ متمسّكًا وينشرُها في ما يكتبه، وفي محيط من تتّصل علاقتُه بهم من الأصدقاء.
مَرْزئةٌ هي للعروبة التي كان من ألسنتها وأقلامها؛ الذَّابِّين عنها بالقلم في عُسْرها واليُسْر، الحَادِبِين على لسانها بالرّعاية والتّهذيب والنّشر. كانت عروبتُه ثقافيّةً بمقدار ما هي سياسيّةٌ، وظلَّ من سَدَنتها في مِصْرٍ من أرفع أمصارها (مرّاكش)، وما كان يخشى في الدّفاع عنها وعن قضاياها لومةَ لائم، ولا يبالي في إتيان مُدافعتها شتْمَةَ شاتم، ولا أخذتْهُ من الجَهْر بالانحياز إليها هيْبَة، ولا كان له عن الانتماء الوجوديّ إليها أَوْبَة. حارسٌ لها هو: قضيّةً ولسانًا وآدابًا وثقافةً حراسةَ المُؤتَمَن على ما يَحْرُس.
ثمّ هي مَرْزِئةٌ للأهل والأصدقاء والتّلامذة والقرّاء؛ لكلّ من اتَّصل به بِرَحْمٍ؛ ولكلّ مَن اقترن به بوشيجةِ صلةٍ في ساحات السياسة والثقافة والتربيّة والتّعليم؛ ولكلّ من عرفه من خلال النصّ المكتوب ولم يُقَيَّض له لُقْيا به. جميعُ هؤلاء نَكَبَتْهم فاجعةُ رحيله ونَقَبَتْهُم، فكانت لهم مَصْدِمةً ومَعْثَرةَ فؤاد؛ وهؤلاء كثْرٌ في البلاد من أقصائها إلى الأَقضاء. وللكثير منهم معه مِنَ الذّكريات المشتَركة ما لِو اجتمعتْ صحائفُه، إن كُتِبَتْ، لكان منها سِفْرٌ عظيم.
الرّجُلُ الهادئُ الصَّموتُ صمتَ الأجِلاّء رَحَل… في صمتِ زمنِ الوَبَإِ والوباءِ رحل؛ فلم يَمْشِ في جنازته الآلافُ كما يستحقّ ذوو الأقدار والمَقامات، مثلُه، أن يُشيَّعوا إلى مَنْزِل رقْدتهم الأخيرة.
الرّجل البشوشُ الطيّبُ المَعشر، الذي تَلُذُّ معه الجلسة على فنجانٍ وحديثٍ شائقٍ مَاتِعٍ رَحَل. فمن أين لجلسةٍ على فنجانٍ وحديثٍ، بعد الآن، مِلْحها الذي يُمْرِؤُها ويُسيغُها في القلب والرّوح؟
الرّجلُ الذي تغمُر الابتسامةُ محيّاهُ وينشُر أريجَها في مَن معه، صاعدةً من الشَّغَاف من غيرِ تَصنُّعٍ أو إقرافٍ، رحل. فمِن أين للابتسامة الثّغر الأَلْيَق والمعدِن الأصْدق لتسِيل في عذوبتها كالماء السّلسبيل؟
الرّجل الذي يَحْنَق على ذوي المَلْقِ والانتهاز، ويَمُجُّ الغِيبَةَ والافتئات، فيقابل ذويها بالاستشناع والاشمئزاز، ويَقْدَحُ في سوء طوايا النَّمَّام والقَتّات … رَحَل. من أين للفضيلة بأن تَشْهَر لسانَها في جيوش الرّذيلة، بعده، فَتُوَضِّئَ الكلامَ من خبائثه في مِيضَأَةِ العِفّة؟
أيّها الرّاحل عنّا بعيدًا، في القلوب منازلٌ تَعْمُرُها ذكراك.