آخر الأخبار

قراءة التاريخ

إدريس بوطور 

بين الفينة والأخرى يحلو لي أن أعيد القراءة الكلاسيكية لتاريخ الإسلام منذ عصر النبوة والخلافة الراشدية إلى سقوط غرناطة وفقدان الفردوس المفقود ، وفي كل فينة يستوقفني حدث معين او سلوك محدد يجعلني أنسلخ عن حاضري ، لأسافر إلى الماضي محاولا ربط بعض الأواصر بين حلقات الزمن . مساء أمس كنت مع بغداد قبل زهاء سبعة قرون ونصف وهي ترزح تحت ضربات المغول في شتاء سنة 1258 ميلادية . هولاكو قائد التتر طحن وسحق تحت وطأته مدينة السلام بغداد ، سحق الورى والثرى ، والزرع والضرع ، وخرب خزانتها ومكتبتها العامرة بيت الحكمة . الورى يعوض والثرى ما زال في مكانه ، والزرع والضرع يعوضان كذلك ، لكن ما ضاع من مخطوطات وأسفار ودراسات وكتب وترجمات يعد بالآلاف المؤلفة يستحيل تعويضه . لقد أحرقت ورمي بها في نهر دجلة حتى اصبح لون مائه اسودا من أثر مداد الكتب الممحية، والتي جعل منها الجند المغول جسورا يعبرون عليها من ضفة الى ضفة . إنها خزانة بيت الحكمة من أروع وأعظم المؤسسات العلمية الاسلامية بل والكونية ، جمعت آلاف المؤلفات والمخطوطات العربية والفارسية واليونانية والرومانية في الطب والفلسفة والفلك والهندسة والرياضيات والآداب . لقد تطلب تأسيس وترسيخ هذه المؤسسة العلمية العظيمة ثمانين سنة من الزمن ، خلال عهد ثلاثة خلفاء عباسيين متتابعين ، أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون ، هذا الرجل الأخير هو الذي ترسخت خلال عهده هياكل خزانة بيت الحكمة وانتاجها الفكري . قضى المأمون عمره السياسي في توسيع مجال هذه المؤسسة العلمية وإعمارها ، ولم تعد مكتبة بيت الحكمة خزانة للمخطوطات والأسفار فقط ، بل أصبحت أنذاك مركزا عالميا رئيسا للترجمة والنسخ والنقل وتسفير الكتب ** ختاما ومن خلال تأمل هذا الحدث التاريخي ، استخلصت درسا واحدا ووحيدا هو أنه ليس هناك في هذه الحياة أسهل وأرخص تكلفة من الهدم ، وفي المقابل ليس هناك أصعب وأغلى تكلفة من البناء والتأسيس . وليس هذا الدرس خاصا بفئة دون أخرى ، بل إن مجاله ينطبق على سائر العلاقات الإنسانية في الماضي والحاضر وما يستقبل من الزمان .