بين وعود الإصلاح وتوجيهات جلالة الملك التي دعت صراحة إلى تقليص الفوارق بين المغربين، الحضري والقروي، يقف قطاع التعمير اليوم عند مفترق طرق خطير. فبينما سارعت الوزيرة إلى إحالة قانون التجزئات العقارية لسنة 1992 على المجلس الحكومي قصد تعديله، تجاهلت تماماً ورشاً أعمق وأقدم: القانون المتعلق بالبناء في الوسط القروي، الذي يعود إلى زمن الحماية سنة 1952/1953، دون أن يطرأ عليه أي تحديث ينسجم مع التحولات الاجتماعية والعمرانية التي عرفها العالم القروي منذ الاستقلال.
قانون هرِم لعالم تغيّر
كيف يُعقل أن يظل بناء بيت بسيط في قرية مغربية خاضعاً لقانون يعود لحقبة ما قبل الاستقلال؟ فالقواعد الصارمة التي تفرض حداً أدنى للمساحة القابلة للبناء، تحرم آلاف الأسر من حقها في تحسين سكنها أو الاستقرار في أرضها، بحجة أن العقار لا يبلغ المساحة المطلوبة. بل إن أغلب طلبات الرخص القروية تُرفض شكلاً قبل حتى مناقشة مضمونها، وكأن الدولة تقول لسكان المغرب العميق: “مكانكم ليس هنا”.
المادة 36… الأمل الذي لم يُفعَّل
القانون المنظم للتعمير (12.90) كان واضحاً في مادته 36 التي تسمح بالترخيص للبناء على أراضٍ تقل عن الهكتار الواحد بصفة استثنائية، بعد دراسة لجنة مختصة. غير أن هذا الاستثناء ظل حبيس الورق، حيث اكتفت الوزيرة بدورية يتيمة تذكّر بمضمون المادة دون أي تفعيل عملي أو توجيه واضح للإدارات الترابية قصد تسهيل المساطر. وهكذا تحوّلت الاستثناءات إلى سراب قانوني، يزيد من معاناة ساكنة القرى بدل أن يخفف عنها.
قانون التجزئات… وحنان الوزارة نحو المنعشين
في المقابل، سارعت الوزيرة إلى فتح ورش تعديل قانون التجزئات العقارية الذي لا يتجاوز عمره ثلاثة عقود، بحجة مواكبة الاستثمار العقاري، وهو القانون الذي يخدم بالأساس مصالح المنعشين العقاريين والمشاريع الكبرى. فهل أصبحت الوزارة ترى في العقار الربحي أولوية على حساب الحق السكني البسيط للفلاح والمواطن القروي؟
هل حقاً هذا ما قصده جلالة الملك حين حذّر من “المغرب بسرعتين”، حيث تسير المدن بسرعة الضوء بينما تتخبط القرى في ظلام القوانين البالية؟
فشل في تحقيق الوعود
منذ بداية ولايتها، أعلنت الوزيرة أمام قبة البرلمان أن تأهيل المجال القروي يمثل إحدى أولوياتها، لكن ونحن اليوم على مشارف نهاية الولاية، لم يُسجَّل أي تقدم يُذكر. لا تعديلات تشريعية، لا رؤية مجالية واضحة، ولا حتى استراتيجية لتقريب الإدارة من المواطن القروي. والنتيجة: استمرار النزيف العمراني غير المهيكل، وهجرة صامتة نحو المدن.
بين الخطاب الملكي والواقع الوزاري
في خطاب العرش الأخير، شدد جلالة الملك على ضرورة “جعل التنمية شاملة ومتوازنة بين كل جهات المملكة”. فهل استوعبت الوزيرة هذا التوجيه؟ أم أن سكان المغرب المنسي خارج أولوياتها؟
بين خطاب الدولة الاجتماعي وسلوك الوزارة الانتقائي، تتضح المفارقة الصارخة: وزارة التعمير تشتغل بمنطق الاستثمار لا المواطنة و هذا يعد تضاربا فضحا للمصالح.
خاتمة
لقد آن الأوان لإعادة النظر في السياسة التعميرية بالمغرب، وجعلها أداة للعدالة المجالية لا مجرد إطار إداري. فالقانون القروي الذي يعود إلى الخمسينيات أصبح رمزاً لتهميش مؤسساتي مزمن، لا يمكن معالجته بدورية يتيمة ولا بخطاب تسويقي. إن الإنصات للعالم القروي ليس ترفاً سياسياً، بل واجب وطني، وأي تأخير في هذا الورش لن يزيد إلا في تعميق الفجوة بين مغربين :
مغرب يشيّد الأبراج … ومغرب لا يستطيع أن يبني بيتاً فوق أرض أجداده .
