آخر الأخبار

نَحْوَ إِصْلَاحٍ وَاقِعِيٍّ وَمَسْؤُولٍ

يوسف اغويرگات

رغم أن مصطلح “الملكية البرلمانية” لم يكن متداولا بصيغته الحالية في السنوات الأولى للاستقلال، إلا أن جوهره كان حاضرا في شكل تنازع على الشرعية السياسية ورفض واضح للحكم الفردي المطلق. فقد عبرت القوى الوطنية منذ ذلك الحين عن تطلعاتها نحو بناء دولة المؤسسات، عبر مطالب مثل المجلس التأسيسي، ووضع دستور ديمقراطي يحد من السلط المطلقة، ويرسخ مبدأ المحاسبة. هذا التوتر بين الشرعية التاريخية والشرعية الشعبية شكل الخلفية الأولى للصراع السياسي، الذي لم يكن مجرد خلاف حول توزيع السلط، بل كان تعبيرا عن رغبة مجتمعية في التأسيس لسلطة خاضعة للرقابة والمساءلة.
على امتداد العقود، تبلور خطابٌ سياسي يطالب بالانتقال الحاسم نحو ملكية برلمانية خالصة، رافضا ما يُسمّى “الديمقراطية بالتقسيط”. ورغم أن هذا الخطاب اكتسب زخما منذ طرح مطلب المجلس التأسيسي، فإن جوهره ليس وليد اللحظة، بل يُجسّد امتدادا لتطلعات تاريخية نحو تقليص الحكم الفردي وبناء دولة المؤسسات. وقد رافق هذا المسار محطاتٌ من الصراع السياسي والعسكري المرير بين الملكية وتيارات متعددة، اتخذ بعضها طابعا سياسيا، فيما اختار بعضها الآخر المواجهة المسلحة.
وقد كان لاستمرار هذا الصراع كلفةٌ باهظة على البلاد، إذ انعكس على مسار التنمية، وعرقل التوافق حول إصلاح حقيقي للتعليم العمومي، وأسهم في تفاقم الفوارق الاجتماعية. فالهوة اليوم بين من يدرسون في أرقى الجامعات من أبناء المغاربة، ومن يعانون الاكتظاظ ونقص الإمكانات في الجامعات الوطنية، تعبر عن أزمة بنيوية أعمق من مجرد نقاش حول توزيع السلط. ناهيك عن الهدر المدرسي والانقطاع المبكر عن الدراسة في المراحل الأولى، وما يترتب عليه من إعادة إنتاج الفوارق وتعميق الإقصاء التربوي والمعرفي، مما يجعل إصلاح التعليم قضية مركزية لا يمكن فصلها عن أي مشروع إصلاحي شامل.
من السهل اليوم أن نُحَمِّل جهة واحدة مسؤولية تلك المآسي، لكن من الصعب أن نبحث بصدق عن حلول عقلانية ومخارج موضوعية. فالإصلاح الحقيقي لا يتحقق بالشعارات، بل ببناء الثقة والمؤسسات والنخب المؤهلة. ومن الوهم الاعتقاد أن تعديلا دستوريا يجعل الملك “يسود ولا يحكم” سيكون كافيا لوحده لحل كل الأزمات. فمن يضمن نزاهة الانتخابات؟ ومن يضمن أنها، حتى لو كانت نزيهة، ستفرز نخبا نزيهة وكفؤة قادرة على العطاء والمحاسبة؟
هنا، علينا أن نسائل أنفسنا بشجاعة وموضوعية:
ما الذي تحقق فعلا من مطلب الملكية البرلمانية الذي رفع منذ عقود؟ وما الذي لم يتحقق، ولماذا؟
هل الخلل في المنظومة نفسها، أم في الفاعلين الذين تبنوا هذا المطلب؟
هل هو قصور من الأحزاب والحركات السياسية التي فقدت جزءا من مصداقيتها، أم ضعف من الجماهير التي ابتعدت عن الفعل السياسي ولم تعد تثق بجدواه؟
إن مساءلة الذات ليست ترفا فكريا، بل شرطا أساسيا لإعادة بناء الثقة وفهم أسباب تعثر الإصلاح في كل مرحلة.
من هذا المنطلق، يظل السؤال الواقعي اليوم هو كيف نغتنم كل فرصة إصلاحية لفرض مزيد من الإصلاحات؟
إن إحداث آلية وطنية للتشاور والحوار، في رأيي، يمثل خطوة نوعية نحو تجديد التعاقد الاجتماعي، وتعزيز الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع. فمثل هذه الآلية يمكن أن تحول المشاركة الشعبية من رد فعل ظرفي إلى ممارسة دائمة ومؤطَّرة، تسهم في صياغة السياسات العامة، ومراقبة تنفيذها، وتقييم أثرها على حياة المواطنين.
سيظل مطلب الملكية البرلمانية حاضرا في الوجدان السياسي، كأفق وطني مشروع، قد يقترب حين تنضج شروطه، وقد يبتعد حين تتعثر الممارسة الديمقراطية، لأنه في نهاية المطاف مرتبط بتطور الحقل السياسي ونضج الفاعلين والمؤسسات.
لكن لا ينبغي أن نجمد كل المطالب إلى أن يتحقق هذا الأفق. فالنضال من أجل مكافحة الفساد وكل أشكال الريع والاحتكار، ومن أجل نزاهة الانتخابات وفضح كل الممارسات التي تفرغ الإرادة الشعبية من مضمونها، ومن أجل إصلاح التعليم والصحة والحكامة والإعلام العمومي، ليست قضايا منفصلة عن هذا المطلب، بل هي أدوات إصلاحية جوهرية تُمهد له وتسرع الوصول إليه.
إن تحقيق الملكية البرلمانية لا يتم بقرار فوقي، بل عبر تراكم إصلاحات جزئية وشجاعة ومستمرة تعيد الثقة في المؤسسات، وترسخ ثقافة المحاسبة، وتقوي المجتمع السياسي والمدني معا.
إن الهدف لا ينبغي أن يقتصر على رفع الشعارات أو تكرار المطالب، بل على بلورة رؤية تقدمية واضحة تترجم إلى مشروع وطني جامع، يسهم في توحيد الجهود وتوجيهها نحو الإصلاح الحقيقي.
فالإصلاح ليس لحظة عابرة، بل مسار تراكمي يتطلب وضوحا في الرؤية، وجرأة في الفعل، وإصرارا على البناء خطوة بخطوة، حتى تترسخ ثقافة المشاركة والمحاسبة وتتحول إلى ممارسة يومية في حياة الدولة والمجتمع.