مع نهاية المرحلة الأولى من الدورة الأولى للسنة الدراسية الحالية، كان من المفترض أن يكون مشروع مدارس الريادة قد خطى بثقة نحو تحقيق أهدافه الكبرى: الارتقاء بجودة التعليم، وتكريس مبدأ تكافؤ الفرص، وتجريب نموذج تربوي جديد يُراهن عليه لإصلاح المنظومة التعليمية بالمغرب. هذا الورش، الذي أطلقته وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة ضمن مشروع “المدرسة العمومية الجديدة”، جاء محملاً بالوعود، وبخطابٍ إصلاحي طموح، يَعِدُ بإعادة الثقة في المدرسة العمومية وجعلها فضاءً محفزًا على التعلم والإبداع.
غير أن واقع الحال يكشف وجهًا آخر أقل إشراقًا. فبينما أنهى التلاميذ نصف الدورة الأولى، لا يزال عدد كبير من تلاميذ مدارس الريادة بلا مقررات دراسية، يعيشون ارتباكا يوميا بين نسخ مطبوعة جزئيا، وأوراق متفرقة، وملفات رقمية يجتهد الأساتذة في تنزيلها وطباعتها على حساب وقتهم ومالهم. وهكذا تحوّل المشروع الذي كان يُفترض أن يخفف الأعباء إلى عبء جديد على الجميع: تلاميذ، وأولياء أمور، وأطر تربوية.
المفارقة المؤلمة أن أولياء الأمور وجدوا أنفسهم في سباق محموم بين المكتبات والمدن، بحثًا عن كتب نادرة الوجود، حتى صار اقتناء مقرر مدرسي أشبه بـ”البحث عن كنز بلا خريطة”. فهل يُعقل — كما تساءل بعض الآباء — أن يُنفق الواحد منهم أكثر من 200درهم في التنقل والطباعة بحثًا عن كتاب لا يتجاوز ثمنه 10 درهمًا؟ إنها معادلة غير منطقية، تطرح تساؤلات عميقة حول مدى استعداد الوزارة المسبق لتطبيق هذا الورش قبل انطلاق الموسم الدراسي.
أما الأساتذة، فهم الحلقة التي تؤدي الثمن بصمت. فبين غياب المقررات وتأخر تجهيز الوسائط التعليمية، وجد كثير منهم أنفسهم مطالبين بإعداد نسخ يدوية أو رقمية للمحتويات، وتحمل أعباء الطباعة والتحميل، مما أثر على الزمن البيداغوجي وجودة الأداء داخل القسم. ومع ذلك، يُطلب منهم تحقيق نتائج تعكس “الريادة” في مدرسة لم تُوفر بعد أبسط شروطها.
ويضاف إلى هذا الإشكال بُعد آخر لا يقل خطورة: غياب تكافؤ الفرص بين تلاميذ المدارس “الرائدة” ونظرائهم في المدارس “العادية”. فالانتماء إلى مدرسة الريادة لم يكن اختيارًا متاحًا لجميع التلاميذ، بل تم وفق معايير داخلية لم تُشرح بما يكفي، مما خلق شعورًا بالتمييز بين أبناء الحي الواحد. ثم جاءت المفارقة الأكبر حين أظهرت المقارنات الميدانية أن مقرر السنة الخامسة والسادسة في مدارس الريادة يقل في المستوى عن نظيره في المدارس العادية بالمستويين الثالث والرابع! فكيف نطمح إلى الارتقاء بجودة التعلم، ونحن نُضعف المحتوى بذريعة التبسيط والتجريب؟
هذه الاختلالات تجعل من المشروع، في صيغته الحالية، امتحانًا حقيقيًا قبل الامتحان المنتظر في نهاية الدورة. فنجاح أي إصلاح تربوي لا يُقاس بالشعارات ولا بالإعلانات الرسمية، بل بمدى قدرته على ضمان العدالة التعليمية وتوفير الوسائل البيداغوجية في وقتها. لذلك، كان الأجدر بالوزارة أن تتدخل مبكرًا لاقتناء المقررات وطبعها وتوزيعها قبل انطلاق الموسم الدراسي، بدل ترك الأسر والأساتذة يواجهون ارتباكًا لا ذنب لهم فيه.
إن مشروع الريادة في شكله النظري يظل فكرة نبيلة تستحق التشجيع، لكنه في واقع التنفيذ يعاني من ارتجال وتسرع، ومن غياب التخطيط المسبق الذي يُحول الطموح إلى تجربة ناجحة. فهل تكون “مدارس الريادة” في نهاية المطاف نموذجًا لإصلاح التعليم، أم مجرد عنوانٍ جديد لإعادة إنتاج نفس الإخفاقات؟ سؤال مفتوح في انتظار جواب الوزارة… قبل الامتحان الحقيقي.
