إدريس الأندلسي
لا زال كثير من المفكرين يندهشون أمام سلوك ، و ثقافة كثير من ممثلي النخب المغربية الغارقة في التناقضات . و لن يتمكن كل من يمتلك قدرة على تحكيم العقل أن يفهم ما يدور في زوايا غابرة و غائبة عن الفعل لتغيير المجتمع. يلاحظ كل متتبع لما يدور في فضاء طرق صوفية، التي تحولت إلى مؤسسات شبه رسمية، تلك المحاولات الاستفزازية، و المتلونة بسلوكيات انتهازية، و التي تريد أن تمتطي موجة الزوايا ” المسماة صوفية” لكي تقوي حظها للحفاظ على كرسي في البرلمان، أو في مجلس وطني لحزب من احزابنا غير الفاعلة في التنمية، و في التحرر من مركب الثقافات الرجعية.
تجتاحني لحظات شك كبيرة في قدرة النخبة السائدة على تغيير مسار بلادي. اقرأ ،بكثير من التهكم غير المصطنع، تلك التعابير المستفزة و المنافقة، التي تصاحب حضور الكثير منهم في مواسم، تسمى بالدينية، و هي للمهرجانات الموسيقية الشعبوية أقرب . يقفون، لمدة طويلة، أمام منصات الخطابة، و هم يثيرون الإنتباه إلى المؤشرات الماكرواقصادية، و يتوسعون في شرح المعطيات الديمغرافية و الإقتصادية، و آثارها على القرار السياسي. و يتحولون بقدرة قادر إلى مريدي طريقة، يقال أنها صوفية، و أعينهم تترصد الكاميرات لكي تصطاد لحظة خلف ” سيدي فلان أو علان”. يقف هؤلاء الانتهازيون في كل الصفوف لكي يحضروا حفلا بمناسبة وصول هبة ملكية لاتباع زاوية، ثم يلتحقون بركب رقص على إيقاع ،يشبه جذبة غير متحكم فيها ، من طرف من يحتاج إلى إيجاد توازن نفسي أو إجتماعي بعيدا عن هلوسات تحتاج للأطباء لشفاء العليل.
و تجدر الإشارة إلى أن أكبر المواسم يقترب بسرعة. يستعد ممتهنو الانتخابات للمشاركة في كل المواسم الدينية، و الطرقية، و حتى لتلك التي تتعلق بفن العيطة و الملحون و طرب الآلة. رأيت وجوها تتغنى بالحداثة، و تقف خلف قيادات الزوايا لكي تنال الرضى، في إنتظار الإعلان عن نتائج الانتخابات. و لا أدري ما السر في تكاثر احتفالات الزوايا الكتانية و الدرقاوية و القادرية البودشيشية، و الشرقاوية و المشيشية و غيرها في هذه الفترة. لا يمكن أن نتدخل في رغبات هذه الزوايا في مجالات التأطير و التمويل و الإستمرار في التواجد عبر أساليبهم، و التي لا تؤثر في مستوى النمو، و لا في تغيير أساليب الحكامة و التغيير الثقافي و السياسي و الإجتماعي.
سيظل مشكل الزوايا و الطرق الصوفية في بلادنا هو ضعفها في التأثير على تغيير السلوك المجتمعي، و التأثير في تخليق تدبير الإقتصاد و السياسة. أتذكر ذلك الحضور الباهت للزاوية البودشيشية في الأيام التي تلت مظاهرات 20 فبراير. أتذكر عشرات من المريدين يرددون دعاء لا يكاد يسمع. و أتذكر ذلك الخجل الذي كان يسود وجوه المشاركين في مظاهرة دعم مضامين خطاب 8 مارس الذي أعلن فيه الملك عن إصلاحات سياسية عميقة . و كان حضور كل الزوايا باهتا في تلك الفترة التي شكلت منعطفا كبيرا في كثير من دول الجوار، و خصوصا في مصر و تونس و ليبيا . اكتفت الزوايا بالجذبة و تلاوة الأذكار، خرج إخوة بن كيران إلى الميدان ليبصموا على بداية مرحلة من التدبير الحكومي استهلكت رأسمالهم السياسي في عشر سنوات. و لا يمكن الإعتماد على الزوايا و الطرق الصوفية في تحقيق الفعل في الواقع. لقد أظهرت الطريقة القادرية البودشيشية أنها لا تعيش خارج تجاذبات أكثرها دنيوي و متعلق بالقيادة، و بمتاع الدنيا الزائلة. التصوف يحتاج إلى اليقين و البحث المستمر عن صفاء الروح، و السياسة لا تحتاج إلا للتموقع و الدفاع عن مصالح حزب، أو طبقة ،أو فئة إجتماعية ، أو رغبة شخص في تحقيق نزوة تقودها نفس” أمارة بالسوء” و شتان بين تدفق المال و الوصول إلى مراحل ” النفس اللوامة”، و إلى تلك التي تصل إلى مستوى ” الراضية المرضية “.
التصوف لا يعفي الشيخ و المريد من السعي لجلب الرزق ، و عدم الإعتماد على تضحيات الفقراء بما ينفقون، لكي يعيش الشيخ و عائلته في رغد، و ولكي يستمتعوا بالسكن الراقي، و الأسفار المكلفة، و ضمان رفاهية لا يقدر عليها إلا ” علية القوم ” يود كل فقير حقيقي أن يعرف مصدر رزق شيوخ الطرق الصوفية . شاهد المغاربة كيف يقضي شيخ يسمى بالكركري وقته في يخت لا يمتلكه إلا البرجوازيون الكبار. كان فريد الدين عطارا، و قيل أن الحلاج كبر في أسرة عاشت على موارد قليلة مصدرها حرفة صعبة. و بنى أبو العباس السبتي مؤسسة تضامنية لا زالت تدعم ذوي الحاجة إلى اليوم. فكفى من التقرب للزوايا لأغراض سياسية، و كفى من إستغلال كرم ذوي النيات الحسنة . و ما نراه اليوم من إقبال بعض الاطر، و فئات تنفق على بناء قصور تصبح ملكا خاصا ، و تغذي حسابات بنكية بإسم أسرة الشيخ، لا علاقة له بالصوفية التي لا تبغي في الأصل و المنتهى غير التقرب بتواضع من الحق سبحانه. التصوف أصبح، لدى البعض صنفا من صنوف الفلكلور، و التميز بأصوات لا تفيد السمو بالأخلاق. عندما أرى تهافت البعض على التدفقات المالية للزوايا، و حاملي لباس المتصوفة، ازداد حبا لما قاله الحلاج حين أقسم قائلا ” و ألله ما طلعت شمس و لا غربت…إلا وحبك مقرون بأنفاسي….” إلى أن يقول في وسط صخب و ضجة و جذبة..” ديني لنفسي… و دين الناس للناس”. و كفى من الانتهازية يا نخبا ضحكت من ضعفها النخب الحقيقية.