آخر الأخبار

نحو ترسيخ السيادة الاقتصادية للمجالات الترابية

بورصة للمخاطر الإنتاجية : نحو ترسيخ السيادة الاقتصادية للمجالات الترابية

ياسين بلكبير

في عالمٍ لم تعد نماذج التنمية فيه تتفاعل، حيث أُقصي الإنسان ليُختزل في كائن يسعى إلى كسرة خبز ومأوى — من غزة إلى كينشاسا — يرسخ المغرب مسارًا سياديًا مميزًا، مرتكزًا على أولوياته الوطنية والتكاملية.

وفي خضم مسار التطبيع الاستراتيجي الذي يسلكه المغرب لتعزيز سيادته على مجموع ترابه الوطني، تبرز الحاجة الملحة إلى هيكلة نموذج رأسمالي متجذر، قادر على مضاعفة الأثر الإيجابي لهذا الالتزام الاستراتيجي والوجودي. وتنتقد هذه الورقة مفهوم “تطبيع الاستثمار”، باعتباره انصياعًا غير مشروط للمعايير المعيارية الخارجية، والذي يؤدي غالبًا إلى إقصاء المشاريع ذات الكثافة البشرية والثقافية والترابية، بحجة كونها محفوفة بالمخاطر، ضئيلة الحجم أو معقدة.

غير أن هذه المشاريع بعينها تُجسد جوهر الإبداع، وتُمثل دعامة حقيقية للمناعة والسيادة الاقتصادية في بلدان الجنوب.

انسداد في نموذج رأس المال المخاطر التقليدي: طغيان التمويل المالي، هيمنة الاستهلاك، واستفحال الأوليغارشيات

أضحى رأس المال المخاطر، الذي لطالما اعتُبر محركًا للابتكار، موجهًا بالأساس نحو شركات ناشئة حضرية وذات طابع رقمي، على حساب المشاريع المرتبطة بالواقع الترابي والاجتماعي. وهو ما يعمق منطق التمركز المالي البحت، ذي القيمة المضافة المحدودة.

وقد أدى هذا التمركز الحضري إلى تفاقم التفاوتات المجالية والاجتماعية، ورسّخ نموذجًا اقتصاديًا استهلاكيًا هشًا، تغذيه الضغوط التضخمية. والنتيجة: عواصم مكتظة تفقد تدريجيًا وظائفها، ومجالات قروية مهمشة، عاجزة عن تثمين مواردها الذاتية.

الغائب الأكبر: المخاطر الإنتاجية في الأنشطة الحرفية الزراعية والتعدينية

يشهد الاقتصاد المغربي الواقعي اليوم تعددية ملحوظة، من خلال حركية صناعية متنامية، ودينامية لوجستية واعدة، وسعي لإعادة توطين سلاسل القيمة. غير أن الأنشطة الحرفية، خاصة في المناطق القروية، تظل دعامة استراتيجية مهمشة.

فهذه الأنشطة لا تُعد مجرد تراث فلكلوري، بل تُجسد إجابة عملية على تحديات البقاء، وتُسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وترسيخ الصمود والسيادة المحلية. وتشمل الزراعة المعاشية، تربية المواشي، زراعات تخصصية (كالتين، الزعفران، الخروب)، النباتات الطبية، والمناجم التقليدية — وهي أنشطة يعتمد عليها مئات الآلاف من المنتجين.

ويُعاني هذا النسيج من محدودية الأطر التنظيمية، ونموذج تعاوني تقليدي بات غير ملائم لمتطلبات العصر. فرغم رمزيته التاريخية، لم يعد هذا النموذج قادرًا على مواكبة التحولات الجارية في مجال الحكامة وسلاسل القيمة. ويستوجب الأمر إصلاحًا عميقًا، يُفضي إلى صيغ هجينة تجمع بين التسيير المشترك والروح المقاولاتية.

إن غياب آليات تمويلية عصرية يجعل من المخاطر الإنتاجية الحرفية عنصرًا غير مرئي، رغم قدرتها الفعلية على تحقيق عوائد مستقرة، تفوق في بعض الحالات الاستثمارات التكنولوجية الهشة.

التجربة الأمريكية: حين أرست بورصات السلع الأولية قواعد الاستقرار

تشكل التجربة الأمريكية مصدر إلهام معتبر: فمنذ القرن التاسع عشر، لعبت بورصات السلع، وعلى رأسها Chicago Board of Trade، دورًا محوريًا في تمكين الفلاحين والمُعدّنين من مواجهة تقلبات المناخ والأسعار، من خلال أدوات مالية مناسبة (عقود آجلة، خيارات، شهادات إنتاج…).

وقد ساهمت هذه المنظومات في خلق بيئة مؤسساتية متكاملة، ضمت تعاونيات فلاحية، بنوكًا قروية، شركات تأمين ومستثمرين.

لماذا يُمكن للمغرب أن يُطلق نموذجًا إفريقيًا جديدًا ؟

يمتلك المغرب مؤهلات فريدة:
• نسيج فلاحي وتعديني حرفي نابض، رغم هشاشته البنيوية،
• قاعدة صناعية ناضجة (المجمع الشريف للفوسفاط، مجموعة مناجم…)، تبحث عن دينامية تجديد،
• قدرة مالية مؤسساتية متركزة في الدار البيضاء،
• وإرادة ملكية واضحة، تدعو إلى تثمين الخصوصيات الترابية وتعزيز التكامل الإفريقي.

الدار البيضاء كمحرك للتمويل الإنتاجي السيادي

بإمكان الدار البيضاء أن تُصبح قاطرة لمرحلة جديدة من الاستثمارات الإنتاجية، عبر دعم:
• الفلاحة التخصصية (سوس، الرباط، طنجة، الجنوب…)
• الاستكشاف المعدني (درعة، بني ملال، مراكش، الجنوب الشرقي…)

وذلك بتفعيل مجموعة من الرافعات على المديين القريب والمتوسط:

1. إحداث صندوق تجريبي للاستثمار في المخاطر الإنتاجية

يُموَّل من الصندوق السيادي، وبنوك تنمية، وشركاء خواص، بهدف دعم مشاريع ناشئة في الفلاحة أو التعدين، مع توزيع ذكي للمخاطر (ضمانات، تأمينات مناخية، عقود أداء…).

2. إنشاء بورصة للمخاطر الإنتاجية

فضاء مالي لتداول شهادات ترتبط بالإنتاج المستقبلي، أو أنشطة استكشاف، أو أصول ترابية (مياه، بذور، تراخيص…). تُدعَّم هذه الأدوات المالية بعقود آجلة وسندات موضوعاتية.

3. تحفيزات مالية: ائتمان ضريبي ورسم مرن على المدى المتوسط

يُقترح تفعيل إعفاءات ضريبية مؤقتة تُعوَّض لاحقًا برسوم مرنة، تُربط بالأداء أو بحجم الإنتاج، لضمان توازن بين الجاذبية المالية وعدالة المردودية العمومية.

4. إصلاح أنظمة التأمين الفلاحي والتعديني

ينبغي تجاوز منطق التعويض السلبي نحو منظومة تأمين تشجع الاستثمار والمخاطرة المدروسة، عبر مؤشرات أداء واضحة.

5. بناء دورة مؤسساتية “ناشئة – كبرى”

تشجيع بروز شركات صغيرة في المجالين الفلاحي والتعديني، تُواكَب من قبل فاعلين كبار، ضمن دينامية لنقل الخبرات وتدرج التمويل.

6. تشكيل تحالف إفريقي اقتصادي

فتح المجال أمام مشاريع من دول إفريقية واعدة (مالي، النيجر، بوركينا فاسو، الكونغو…) تمتلك موارد خام لكنها تفتقر لأدوات تمويل مناسبة.

خاتمة: من أجل رأسمالية منتجة، ذات جذور، وسيادة

في خضم التحولات الجيوسياسية العميقة، حيث يُرسخ المغرب سيادته الترابية ويعيد تشكيل شراكاته الدولية، يُصبح لزامًا عدم الانصياع الأعمى لنماذج مفروضة خارجيًا. فبورصة المخاطر الإنتاجية ليست مجرد أداة مالية، بل تجسيد عملي لسيادة اقتصادية، وعدالة مجالية، واستثمار ممنهج في الإنسان والمجال.

ومن قلب الدار البيضاء، يستطيع المغرب أن يُطلق دورة جديدة من التمكين الترابي، تُعيد تعريف مفاهيم التنافسية، وتُؤسس لنموذج إفريقي بديل، أكثر توازنًا، وأكثر التصاقًا بواقعه الثقافي والإنتاجي