آخر الأخبار

من العنف المدرسي إلى عنف القيم ، المدرسة العمومية في مهبّ السوق

بقلم : محمد أمين وشن

“التعليم لا يغيّر العالم، بل يُغيّر الناس الذين سيغيّرون العالم ”    (باولو فريري، المربي والمفكر البرازيلي)

بين جدران المدرسة العمومية المغربية ، لم يَعُد العنف مقتصراً على الضرب أو الشجار أو التهديد ، بل امتدّ إلى ما هو أعمق وأخطر ، ألا وهو عنف القيم ، فحين تتحوّل النقط إلى سلعة ، والشواهد إلى صفقة ، وتُستبدل التربية بالتساهل ، يكون التعليم قد دخل مرحلة الإفلاس الأخلاقي ، لا فقط البيداغوجي .

هذا الواقع الذي لم يعد يُنكره حتى مسؤولو القطاع ، لم يكن أبداً قدراً منزلاً ، بل نتيجة مباشرة لاختيارات سياسية طبقية هجرت المدرسة العمومية ، وتواطأت على تجريدها من مضمونها التحرري ، لتُحوّلها إلى فضاء لإعادة إنتاج التفاوت ، لا لتجاوزه ، إذ تخلّت الدولة ، منذ عقود عن التزاماتها اتجاه المدرسة العمومية ، خضوعًا لوصفات صندوق النقد الدولي ومنطق السوق ففُرِضَ التقشف على قطاع التعليم ، وتقلص الاستثمار في البنية التحتية ، وتم تسليع الحق في التعلم فنتج عن ذلك الاكتظاظ ، ضعف التأطير، وتغييب التكوين المستمر ليُترك الأستاذ وحيدًا في مواجهة جيل يتعرّض يوميًا للقصف الإعلامي والمجتمعي بسبب انهيار المعايير ، حيث تُفرَض عليه المذكرات ، ويُطالَب بالتسامح مع الغياب ، والرضوخ لضغوط بعض الأسر، بل وحتى الرضوخ والسماح بحالات الغش في غياب أي مسوغ يحميه مما قد يتعرض له في حالة الرفض ، من طرف مرتكبيه

أما التلميذ ، فغالبًا ما ينظر إلى التعليم كمعبر شكلي ، لا يربطه بأي رهانات للترقي الاجتماعي أو التكوين ، ولعل تواجد 4 ملايين شاب اليوم خارج منظومة التدريس والتكوين والشغل ليؤكد ذلك قطعاً وتحت ضغط هذا المناخ ، أصبح من المعتاد أن تُمنح النقط بغير وجه استحقاق ، وأن تُوقَّع بيانات النجاح لتلميذ لم يُنَجّح نفسه ، وأن يُغضّ الطرف عن السلوكات العنيفة داخل الأقسام وهكذا تتحول الشواهد إلى أوراق بلا قيمة ، وتُصبح المدرسة شريكًا صامتًا في تخريب المعنى.

ما يحدث في المدرسة ليس معزولًا عن السياق العام فحين يُشيَّع في المجتمع أن كل شيء هو سلعة قابلة للبيع ، من فرص الشغل إلى التزكيات الانتخابية إلى القيم والضمائر….، لن يكون غريبًا أن تتسلل هذه العدوى إلى الفضاء التربوي إن بيع النقط ، وغض الطرف عن الغش، وتطبيع الرداءة، ليست إلا تمظهرات لتغلغل منطق السوق في قلب منظومة كان يُفترض أن تُحصِّن الوعي من هذا الانحراف

إنها باختصار، نيوليبرالية التعليم حيث لا تُهمّ الجودة ، بل الأرقام ولا يهمّ ماذا اكتسب التلميذ من معرفة ، بل كم تلميذًا اجتاز بنجاح مزيف إنه بكل بساطة منطق محاسباتي صرف ، لا يمتّ بصلة إلى الميدان التربوي ، وبه تتحول المدرسة إلى مقاولة تصدر الشواهد بدل أن تربي العقول وتنمي مهارات الفهم والتحليل والتركيب والاختيار والنقد

فحين يُصبح الغش سلوكًا مقبولًا ، والتميّز مثارًا للسخرية ، والضمير التربوي محط تهميش ، نفقد بكل تأكيد جوهر المدرسة كمؤسسة منتِجة للقيم وهذا الانحدار لا يهدد فقط مستقبل التلاميذ ، بل يهدد النسيج الاجتماعي بأكمله ، إذ يُهيّئ لجيل لا يرى في الوطن سوى صفقة، وفي الواجب سوى كلفة

وفي خضم هذا الانحدار، لا يكفي التنديد ولا التحسيس ، بل المطلوب من القوى التقدمية أن تُعيد وضع التعليم في قلب مشروعها السياسي ، فالنضال من أجل مدرسة عمومية قوية لا يمر فقط عبر الميزانيات ، بل عبر معركة رمزية ضدّ تشييء المعرفة ، وتبضيع التعليم ، وتخريب المعايير والقيم

إذ يجب استعادة الكرامة للأستاذ ، والمصداقية للشهادة ، والمعنى للمؤسسة التعليمية ، فبغير ذلك ، سنكون بصدد إنتاج مواطن هشّ ، سهل الاختراق ، عديم الثقة في الدولة والمجتمع بل وحتى في ذاته أيضا

وإذا أردنا فعلًا إصلاح التعليم ، فلنبدأ بإعادة الهيبة للعلم ، والاعتبار للضمير، والقطع مع منطق النجاح بالعتبة وجعل نسب النجاح معيارًا للتميّز ، فالنقط الرقمية لن تصلح ما أفسدته السياسات الفوقية ، ولن تضمن الرقمنة نزاهة الشواهد إن لم يُستعد للمؤسسة التعليمية دورها كمنارة أخلاقية ، لا كممر عبور مشروط لقوانين السوق

فالمدرسة، إما أن تكون مصنعًا للمواطن الحرّ، أو مطبعةً لشهادات بلا معنى

فلنعِدْ للمدرسة المغربية هيبتها ، وللأستاذ كرامته ، وللتلميذ حقه في التعلم الآمن ، فبدون مدرسة عمومية قوية ، سنبني مجتمعاً هشاً ، حيث لا صوت يعلو فيه سوى صوت الانهيار