آخر الأخبار

مشروع قانون المالية: أرقام لا تقاوم

إدريس الأندلسي

تعودنا منذ حكومة التناوب التوافقي التي قادها الراحل عبد الرحمان اليوسفي على الحصول على تقارير مفصلة عن عدة مكونات للتدبير المالي العمومي. تطور القانون التنظيمي للمالية من أجل تسهيل الوصول إلى المعلومة، و تمكين المواطن، و البرلماني من مناقشة الوزراء بهدف تغليب الشفافية، و ربط الوسائل بالنتائج. و لكن كل هذه التطورات لم تستطع تفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة، و لا بتنزيل المشروع الإستراتيجي القديم و الجديد المتعلق بتقليص الفوارق الإجتماعية و المجالية، ولا بتحقيق مردودية اقتصادية و إجتماعية حقيقية للإستثمار العمومي. و ليس صعبا أن نضع لائحة بالإخفاقات التي نجترها منذ سنين. و لنا في خطاب العرش الاستنتاج العميق حول تلك النتيجة التي سجلتها الحكومة في مجال خلق مغرب يسير بسرعتين، و ربما بكثير من ” السرعات”. و قد أصبح شعار ” نجاعة الأداء ” الذي رفعه رئيس الحكومة في توجهاته لإعداد ” ميزانيات ثلاث سنوات تنتهي سنة 2028. الأمر لا يتعلق بمنهجية عمل، و لكن بتوجيه رسائل ” لمن يهمهم الأمر ” أن هذه الحكومة ستستمر جاثمة على صدور من لا يقبلون تدبيرها، و اختياراتها ، و نتائج عملها، و ” فشلها ” في محاربة تضارب المصالح، و تسخير الأموال العامة في وسائل لم تؤثر على تضخم الأسعار، رغم ثقل فاتورة استفاد منها الأغنياء ،ذوى اللون السياسي ، جدا جدا على حساب الفقراء جدا جدا. و من المضحك جدا جدا أن ينقلب داعمو الحكومة إلى حاملين لخطاب يناقض ما قالوه منذ أربع سنوات. هل افاقوا على هول الريع لينطقوا بخطاب ” معارض حتى الضحك” في آخر سنة من الاخفاقات. أظن أن رائحة اللحوم الحمراء، و رائحة المواد الطاقية و البترولية، رائحة الملفات العقارية المذرة للأرباح الخيالية، و رائحة الغضب الشعبي المنبعث من كل ناحية، قد أخبرتهم بأن دوام الحال من المحال. و قد وجبت إعادة صياغة الخطاب الشعبوي المنقذ من ” الضلال ” الانتخابي.
قدم مشروع قانون المالية كسابقيه محفوفا بأهداف تكرر كل سنة من الرسالة التوجيهية لرئيس الحكومة لمكونات الجهاز التنفيذي، إلى المذكرة التقديمية للمشروع، ثم بعد ذلك تفاصيل توزيع المخصصات الميزانياتية على القطاعات الوزارية. يمكن القول أن أهم ما يميز مشروع مالية 2026 هو أنه آخر مشروع في عمر هذه الحكومة، لا مد الشعب عمرها بعد الانتخابات المقبلة. و وجب التذكير أن هذه الحكومة قد برمجت و نفذت مصاريف تقارب 2000 مليار درهم خلال السنوات الأربعة الأخيرة. و تشمل هذه المبالغ ما تم تخصيصه لأداء أقساط و فوائد الديون المتراكمة و لا تشمل هذه المبالغ الكبيرة ما تم صرفه لتسيير و استثمارات المؤسسات و المقاولات العمومية. و للأمر علاقة مع حجم ديون بلادنا، و التي تجاوزت، حسب معطيات وزارة الإقتصاد و المالية، حتى نهاية شهر يونيو 2025 حوالي 1320 مليار درهم كديون للخزينة. أما ديون المقاولات العمومية بالعملات الأجنبية فقد تصل إلى حوالي 240 مليار درهم. و لا تظهر معطيات عن حجم ديون هذه المؤسسات لدى السوق المالي الداخلي. و كثيرا ما تزخر التقارير بتطور مؤشر حجم دين الخزينة نسبة إلى الناتج الداخلي الإجمالي لإظهار تحسن هذا المؤشر. و لكن قراءة حجم الدين انطلاقا من مؤشر واحد لا يمكن أن يفضي إلى الاطمئنان على مستوى مديونية بلادنا. فالواجب أن نقارن حجم هذه المديونية، و حجم ما تكلفه سنويا لإهلاك أقساط راس المال ، و لأداء الفوائد و الرسوم، بالمداخيل العادية المرتقبة. ستؤدي خزينة الدولة حوالي 108 مليار درهم خلال 2026. و ستضطر إلى اقتراض خلال نفس السنة ( متوسط و طويل المدى) ،قد يصل إلى 123 مليار درهم. و سوف تسعى الخزينة إلى تغطية الحاجيات المتبقية لتمويل ميزانية الدولة عبر البحث عن 48،7 مليار درهم. و سيظل طريق المديونية هو المقابل الأهم للبحث عن تمويل المشاريع التي تبرمج في بلدنا. و لهذا يجب أن نقارن حجم المديونية بمواردنا العادية سنويا، و كذلك بحجم ما تفرضه من أقساط رأس المال و الفوائد و الرسوم.
و حاد النقاش السياسي و المالي عن طريقه. أراد ” زعماء هذا الزمن ” فرض موضوع كرة القدم على الكلام في زمن الغلاء و التوترات الإجتماعية، دون ربط الإستثمار العمومي بقاعدة البرمجة بالأولويات. كان الوزير، و المسؤول عن كرة القدم، و عن ” برنامج 2030 ، هو محور المساءلة. و قدمه الكثيرون، وهم أصحاب موقف سياسي، بكثير من الاثراء، و نسوا أن الأهم هو ربط ملايير الدراهم بالتنمية الإجتماعية و المجالية. لن يعلمنا أحد أن برمجة مشاريع النقل عبر القطار، و الطائرة، و الحافلة تشكل أولوية حقيقية. و لن نقبل أي تحليل لا يبرر استثمارات في مشاريع مكلفة لم يتم تشغيلها. بنينا مسرحان كبيران في الرباط و الدار البيضاء، و تم الإنتهاء من تشييدهما دون تشغيلهما منذ شهور. و لن تستطيع حكومة اخنوش تبرير عدم إستغلال استثمارات عمومية في المجال الثقافي. سنظل نقول، إلى أن يثبت العكس، أن الإستثمار في هذين المسرحين لم يثبت، في الوقت الحالي، أية جدوى .
وسيستمر جدول البرمجة في الميزانية العامة يخضع لاختيارات لا علاقة لها بتقليص الفوارق الإجتماعية و المجالية. مسرح في الدار البيضاء يستبيحه البعض ليلا لكي ينفس عن تفاعل جسمه مع تراكم كميات السوائل لديه. و لا زال مسرح الرباط العظيم بعيدا عن المواطن. محيطه محروس لا يسمح بالاقتراب منه. هذه مجرد أمثلة على مردودية الاستثمارات في المجال الثقافي. و لن يختلف الأمر بالنسبة لمردودية المركبات الرياضية التي جعلت من الرباط عاصمة لأكبر الاستثمارات في القارة الأفريقية. أريد أن اتقاسم حلم مردودية هذه الاستثمارات مع، زميلي سابقا، فوزي لقجع، لكن التجارب الدولية تحتم علي قليلا من تفعيل العقل في أبسط تحليله لمردودية المنشآت الرياضية الكبرى في غياب الأنشطة الرياضية الكبرى . و سيظل المرحاض في مدارس بالعالم القروي، بالمناطق المحيطة بالمدن، في المناطق الجبلية و الصحراوية أهم من كل الملاعب العالمية. لقد أتيحت لي فرصة التعرف على معاناة الفتيات في غياب المراحيض. تغادر البنات المدرسة لأنها لا تحاكي ما يفعله الذكور للتخلص من الضغط على اعضاءهم الذكورية.
و سيصبح من الصعب أن تتوجه الحكومة لضحايا الفوارق الإجتماعية و المجالية بأرقام حول المديونية الداخلية و الخارجية. و ما شأنهم بهذه الأرقام، و بتلك التي تتكلم عن التضخم، و عجز الميزان التجاري، و تلك التي تهم ميزان الاداءات. هم يتكلمون عن سعر لحوم، و خبز، و خوف على فلذات اكبادهم، و هم يغادرون البيت في جنح الظلام لكي يصلوا إلى المدرسة.
و لكن الحكومة تأتي في منتصف أو منتهى كل سنة لتقول للمواطن أن مشروع قانون المالية للسنة المقبلة ستحل معظم المشاكل. أود أن أشير إلى أن شخصية وزير الإقتصاد و المالية، تؤثر كثيرا على سير مناقشات النواب للمشروع. يرصد العارفون بالشأن العام أن أغلبية البرلمانيين لا يفهمون شيئا في أرقام، و ما يحمله القانون من مضامين للتاثير على مستوى النمو، و على نسبة دعم الأغنياء مقارنة بالفقراء ذوي الدخل المحدود. قال الوزير ” المتميز” فوزي لقجع، و هو يقارع حجج بعض البرلمانيين، أن المادة 30 من مشروع قانون المالية المتعلقة بأثمان الأدوية لا تهدف إلا لخفضها ، و جعلها في متناول القدرة الشرائية للمواطنين. و تحدى كل من يقول العكس، إلى الإلتزام بالاعتذار و سحب كل ما من شأنه أن يضر بقدرة المواطن على مواجهة غلاء الأدوية. و هنا يظهر الخلل الأكبر في مواجهة الحكومة. نعرف لماذا يعتبر بلدنا مرتعا للأرباح الكبرى، للمختبرات العالمية . و نعرف التهديدات التي تصوغها بعض الشركات التي خالفت كل الالتزامات، و لخصت وجودها في المغرب، في تلفيف الدواء بدل صنعه. و تولى بعض المغاربة الدفاع عن مصالحها حتى أصبح المرضى يعيشون أزمات البحث عن الدواء الجنيس حين يقرر ” صاحب القرار” منع الفقراء من الولوج إلى كثير من الأدوية الجنيسة. و هنا أتحدى كل وزراء الحكومة الذين ” يحبون المغاربة” ،أن يرخصوا للمرضى اقتناء الأدوية من إسبانيا أو فرنسا مباشرة. الفرق كبير بين سعر دواء في مجال السرطان بالمغرب، و بين السعر الذي يوجد في أوروبا.
يعتبر طرح مشروع قانون المالية للنقاش السياسي لحظة يجب أن تعبر دور المؤسسات لتبحث عن استفادة المواطن الفقير أو ذو الدخل المحدود من مقتضيات ستصبح بعض أسابيع قانونا يطبق على الجميع. و قد تستفيد من مقتضياته في السنة القادمة قلة من ذوى التأثير على القرار. و أعرف جرأة، وقوة إقناع السيد فوزي لقجع، و أتمنى له كامل الصحة والعافية، و أود أن يتواضع علميا، حين يلغي منهجيا ربط مقتضى قانوني ذو ثقل مالي بمصلحة اقتصادية خاصة. توجد أمثلة كثيرة عن استفادة قلة من تغيير طفيف، ذو آثار ضريبية، في مادة تهم تغيير قاعدة في قواعد المحاسبة الخاصة بالشركات. و الأمر معروف، و لا يحتاج إلى مقارعة الحجة بالحجة. و يحتاج المغرب أن يصنع قانون ماليته السنوي إلى نفس الأسلحة المهنية التي تتوفر عليها قيادات القطاع الخاص. يجب أن يتمكن البرلمانيون في موارد تضمن لهم مصاحبة مهنية من طرف خبراء المحاسبة و التحليل المالي حتى لا يغرق العمل السياسي في مستنقعات اللغة المالية و القانونية المعقدة.
و نرجع إلى بعض الأرقام التي تهم بلادنا في الأول و الآخر. ستصل مجموع موارد الميزانية خلال السنة المقبلة إلى حوالي 712،5 مليار درهم. و سنضطر إلى البحث عن موارد من خلال الاستدانة الداخلية و الخارجية, على المدي المتوسط و الطويل، تقدر بحوالي 123 مليار درهم. و لكننا لن نتمكن من صرف مبالغ لن تزيد على حوالي 480 مليار درهم. سوف نخصص حوالي 348 مليار درهم للتسيير كتكاليف الموظفين ، و سيتم صرف الباقي لأداء سعر الفائدة على الدين العمومي، و الذي سيصل إلى ما سيزيد على 44 مليار درهم. إنها أرقام لا تقاوم.
ستقوم الدولة بصرف مبالغ حددتها الميزانية في حوالي 528 مليار درهم. ستصل ميزانية الإستثمار، في أقصى الحالات إلى حوالي 136 مليار درهم، أي حوالي 20% من مخصصات الميزانية لسنة 2026. و سيظل البناء المالي للميزانية محكوما بمقتضيات قانونية ، و تقنية، لا، و لن تفرج عن حقيقة توزيع المنح الموزعة على الأغنياء، و تلك التي توجه لرسم خريطة الدعم الإجتماعي ، و التغطية الإجتماعية و المجالية. و يمكن البحث أكثر لوجود مؤشرات عن العدالة الإجتماعية في مجالات عدة. ينجح فوزي لقجع، كمدبر لكرة القدم، و لكنه يتصرف كصاحب قرار حين يتعلق الأمر بالعدالة الإجتماعية. أتمنى من هذا الرجل الكفء ، أن يخوض معركة أسعار الحماية الإجتماعية، و يفسر لنا أسباب استفادة القطاع الخاص من حوالي 85 % من أموال التغطية الإجتماعية و الصحية ، و كيف يمكن للمستشفى العمومي أن يوازي بين حجم الميزانيات المرصود و مداخيله عبر أموال التغطية الصحية الاجبارية. لن يقف هذا المستشفى على ” رجليه” إذا لم تتعدى مداخيله أكثر من 40 % من أموال هذه التغطية التي تأتي في الأساس، من جيوب المواطنين المنخرطين في التأمين عن المرض. و لا يجب أن ننسى أن ملك البلاد أعطى إشارات قوية خلال الأسبوع الفارط عبر تدشينه لأحد أكبر المنشآت الصحية في العاصمة الرباط و أكادير. و يجب أن نذكر أن هذه المنشآت العمومية و شبه العمومية و غيرها لا يمكن أن تعرف توازنا ماليا في ضوء التوزيع الحالي لأموال التغطية الصحية الإجبارية ، و انفاق الأسر الذي يتجاوز 50% من ” الميزانية الوطنية للصحة” ( ليس المقصود هنا ميزانية وزارة الصحة).
و يبقى من الضروري تجاوز النقاشات التي ترتكز على الجزءيات خلال اجتماعات اللجن البرلمانية خلال الشهرين الأخيرين من كل سنة. ينسى السياسيون بسرعة الوعود الانتخابية، و برامج الحكومة، و الأهم هو نسيان تقييم كثير من السياسات القطاعية و العمومية و خصوصا في مجال الصحة و التعليم و الفلاحة و الصيد البحري و دعم الإستثمار. عشرات الملايير من الدراهم وصلت إلى القطاع الخاص، و ظل الأثر على التشغيل ضئيلا، و ظلت عمليات تقييم التزامات المستثمرين في مجال خلق مناصب الشغل شبه غائبة.