آخر الأخبار

محمد مشبال : البلاغة العربية عانت الجمود

محمود القيعي 

حوار  اليوم في جريدة ” الأهرام ” مع  الناقد والأكاديمي المغربي د.محمد مشبال  بعد حصوله على جائزة ” فيصل”  :

البلاغة العربية عانت الجمود وابتعدت عن الحياة 

الذين لا ينظرون إلى ما صنعه الآخرون قديما وحديثا   لا يمكنهم المشاركة في تجديد المعرفة

حتى الآن لا يزال المحافظون يقدّسون الماضي ويرفضون المستقبل

المعرفة مهمة جليلة   ليست وجاهة  وينبغي تنزيهها عن الأهواء

حوار- محمود القيعي:

” صاحب مشروع علمي،وتتصف أعماله بالعمق والجدة والأصالة  والجمع بين النظرية والتطبيق وتسعى إلى  ربط البحث البلاغي بحقول الأدب واللغة والاتصال والتأسيس النظري والإجرائي لبدايات الخطاب البلاغي العربي الحديث وفق رؤية موسعة تنهض على دعوى التجديد “.

بتلك الكلمات برر القائمون على جائزة   الملك “فيصل العالمية” منحها الأكاديمي والناقد المغربي د.محمد مشبال الجائزة الشهيرة هذا العام.

مشبال  يترأس حاليا فرقة البلاغة وتحليل الخطاب في كلية الآداب بجامعة عبد المالك السعدي في تطوان بالمغرب.

من مؤلفاته:

بلاغة النادرة، أسرار النقد الأدبي،البلاغة والأصول: دراسة في أسس التفكير البلاغي عند العرب- نموذج ابن جني،الهوى المصري في خيال المغاربة،في بلاغة الحجاج.. نحو مقاربة  بلاغية  حجاجية لتحليل الخطابات.

مشبال مهموم بأوضاع الثقافة العربية ويراها  مأزومة عليلة  ، مشيرا إلى  وجود استباحة في النشر  على نطاق واسع  لأغراض تجارية وغيرها .

ينظر إلى المعرفة باعتبارها مهمة جليلة ينبغي تنزيهها عن الأهواء .

عن  الفكر العربي وهمومه، والبلاغة العربية ومستقبلها،  كان هذا الحوار:

حصولك على جائزة فيصل العالمية ماذا يمثل لك؟

يمثل لي الفوز بجائزة فيصل تقديرا حقيقيا للمجهود الذي بذلته طوال ثلاثة عقود من الزمن في تطوير حقل البلاغة الذي عانى الجمود والاجترار والابتعاد عن مجرى الحياة، كما تعني لي أيضا أنني مطالبٌ الآن ببذل مجهود أكبر لتعميق هذا المشروع العلمي. وتعني لي ثالثا أن الشغف والإخلاص للعمل الجاد والدؤوب والممتد في الزمن يعطي ثماره في النهاية؛ وهذا درس يستفاد من هذه الجائزة بالنسبة للباحثين الشباب.

كنت من أوائل الدارسين العرب الذين فتحوا باب الدراسات الحجاجية في البلاغة العربية، ماذا تحقق؟ وماذا أضافه هذا الفرع من المعرفة للثقافة العربية؟ وكيف ترى المشهد الآن؟

في الحقيقة أنا أنتمي إلى الجيل الثاني من الباحثين العرب الذين انخرطوا في الدرس الحجاجي، بعد محمد العمري ومحمد الولي من المغرب وحمادي صمود من تونس؛ فقد كانت دراساتي البلاغية الأولى ذات توجه أدبي تستلهم الدراسات البلاغية التي سادت في مصر مع أمين الخولي ومن جاؤوا بعده أمثال شكري عياد ومصطفى ناصف وجابر عصفور، مثلما تستلهم الدراسات الغربية والأسلوبية التي انتشرت في ثقافتنا العربية في الثمانينيات وعكستها مجلة فصول القاهرية بوضوح. لكن ابتداءً من الألفية الجديدة انفتحت كتاباتي على الدراسات البلاغية ذات التوجه الحجاجي، لأمرين مهمين؛ أولهما هيمنة هذا التوجه عالميا باعتباره توجها أصيلا في البلاغة لا يمكن إسقاطه، وثانيا لأنه توجه يلائم طبيعة الأدب العربي الكلاسيكي الذي كان يستأثر بكتاباتي وخاصة أدب الجاحظ. وأتصور أن ثقافتنا الأدبية والنقدية قد غنمت فوائد عظيمة بالانفتاح على الحجاج سواء في دراسة الأدب القديم أو بإعادة قراءة البلاغة القديمة. والمشكلة التي يعانيها الدرس الحجاجي هو انتشار كتابات سقيمة تسيء للعلم؛ ومعظمها لطلاب مبتدئين ساعدتهم دور النشر التجارية في طبع أبحاثهم.

هناك  كثيرون  يرون أن الحجاج علم غربي يقابله في ثقافتنا علم الكلام، ويخرجونه من أبواب البلاغة، هل ثمة فرق بين علم المناظرات والكلام وبين علم الحجاج؟

هذا كلام عارٍ عن الصحة؛ فالحجاج جزء من البلاغة العربية منذ بداياتها الأولى مع الجاحظ؛ ما قول هؤلاء في كتاب “البيان والتبيين”؟ هل هو كتاب في الشعر والأدب؟ أم إنه كتاب في الحجاج؟ وهل تخلو كتب البلاغة العربية من التوجه الحجاجي الذي لا يحتاج منا سوى إلى الكشف عنه وإظهاره؟

إن من يُخرج الحجاج من البلاغة، فإنه يراها مجرد محسنات تضاف إلى الخطاب لتزيينه، وهو بذلك يسيء إلى هذا الحقل الثري؛ وهذا ما حدث بالفعل في تاريخ البلاغة التي كانت تعني فن الإقناع قبل أن تتحول إلى جملة من الصور التي تُضفي الجمال على القول، قبل أن تنبعث من جديد في أواسط القرن الماضي وتستعيد ماضيها القديم يوم كانت مرتبطة بالخطابات الإقناعية.

هناك سوء فهم ينطوي عليه هذا التصور الذي يبعد الحجاج عن البلاغة، وهو أنه يطابق بين الحجاج والمنطق أو بين الحجة والبرهان. وبناء عليه ينبغي أن نعي بأن الحجاج يختلف عن المنطق في كونه يقوم على مقدمات شبيهة بالحقيقة وليس على مقدمات يقينية كما هو الحال في المنطق.

وأما علاقة الحجاج بالمنطق فهي علاقة شكلية حيث يستعير الحجاج  شكل الاستدلال دون محتواه، وبذلك نستطيع أن نقول إن الحجاج هو منطق القيم كما قال بيرلمان، ولكن الحجاج البلاغي أوسع من المنطق لأنه لا يكتفي بالحجج ذات الشكل المنطقي بل يتعداها إلى حجج أخلاقية وعاطفية.

ويجب التنبيه إلى أن الحجاج ضروب مختلفة؛ فهناك الحجاج المنطقي الذي يمكن أن تجده في المناظرات الكلامية والعلمية، وهناك الحجاج البلاغي الذي يسود في الخطابات العمومية، وهناك الحجاج اللغوي الذي يعتبر جزءا من اللغة.

كيف ترى مناهج البلاغة في الجامعات العربية الآن؟

في الجامعات العربية تدرس بلاغة واحدة، هي البلاغة التي يأخذها الأستاذ من الكتب التعليمية؛ حيث يلقّن للطلاب قاعدة الوجه البلاغي مدعما إياها بالشواهد من الشعر والقرآن الكريم. لكن تغيب البلاغة بوصفها نظرية أو أفكارا. ومن المعضلات الكبيرة التي تحدث في الجامعة فصل البلاغة عن النقد الأدبي، وفصل البلاغة عن الخطابات. لكن يمكن أن نستثني الماسترات ووحدات التكوين والمختبرات التي تكونت في بعض الجامعات مثل تونس والمغرب والجزائر؛ حيث أتيحت الفرصة للأساتذة تقديم مشاريع بحث وتكوينات غير تقليدية ومنها “البلاغة” الجديدة؛ لكن تظل البلاغة المدرسية هي السائدة والمهيمنة على ذهنية خريجي الجامعات بحكم أنها معتمدة في مقررات سنوات الإجازة وفي مباريات التوظيف.

قلت سابقا إن بيننا –نحن العرب- وبين الحوار العلمي الحقيقي سبع صحارى.. ما الأسباب؟

في تقديري الشخصي يقتضي الحوار العلمي الحقيقي أن يكون لدينا علماء حقيقيون همهم الأعلى هو بناء المعرفة، وأن نعيش ثقافة حقيقية تتنفس هواء نقيا. لكن للأسف لا نملك علماء حقيقيين، وثقافتنا مأزومة عليلة. وأنت هنا لا تستطيع أن تفصل هذا الوضع عن أحوال العرب السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فلا وجود لمؤسسات علمية وثقافية حقيقية يمكنها أن ترعى العلم لأجل العلم، بعيدا عن التوجهات الإيديولوجية والاستقطابات السياسية؛ فجامعاتنا مهترئة لا يشكل البحث العلمي فيها سوى اهتمام ثانوي، والهيئات الثقافية والعلمية المختلفة عاجزة عن القيام بمهامها الحقيقية؛ فقد استبيح النشر على نطاق واسع لأغراض تجارية وغيرها؛ فالناشر اليوم لا يجد حرجا في أن ينشر كتابا لعالم جليل وفي الوقت نفسه ينشر كتابا ملفقا لمرتزق .  وفي غياب الشروط الحقيقية لإنتاج المعرفة، تسود الجهود الفردية التي كانت سببا رئيسا في ظهور أعلام من الطراز الرفيع، ولكن لا يمكن التعويل على هذه الجهود الفردية التي تظل نادرة لا يقاس عليها.

ولعل أحد مظاهر الأزمة الثقافية أن يقول لك مثقف في حقل ما :أنا لا أقرأ سوى للغربيين ولا أنظر إلى ما ينتجه العرب، بل ويقلل من قيمة المنتج المعرفي العربي دون أن يكلف نفسه عناء قراءته والاطلاع عليه، وقد يهاجم هذا الباحث أو ذاك بحجج مجانية، وكأنه يواجه خصوما سياسيين ينافسونه على الكرسي؛ وبهذا الموقف يحكم على الاجتهادات التي يمكن أن يقدمها زملاؤه بأن تظل سجينة أصحابها إن لم يقدّر لها الله أن تنمو على يد طلاب نابهين. ولا أبالغ إن قلت إن المعرفة عند معظم من يمارسونها في العالم العربي ينظر إليها باعتبارها علامة للتميز تمنحهم حظوة في المجتمع، وقد تجلب لهم منافع، ولا ينظرون إليها باعتبارها مهمة عقلية جليلة ينبغي تنزيهها عن الأهواء .

نسمع كثيرا “جعجعة” عن تجديد الفكر العربي ولا نرى طحنا، ما الذي يحول دون التجديد؟

الحديث عن التجديد يقتضي نظاما تعليميا قويا، ويحتاج إلى مؤسسات علمية حقيقية، كما يحتاج إلى رعاية وتشجيع؛ فالتجديد في حقل البلاغة لم يكن سهلا منذ بدايات القرن العشرين؛ وحتى هذه اللحظة مازال المحافظون يقدّسون الماضي ويرفضون المستقبل، ويصرون على أن تظل البلاغة في صورتها التقليدية التي تعلموها. وهم بهذا يضعون قيودا على أي تفكير  تجديدي.

أنا لا أدعو إلى نسيان الجرجاني وحازم القرطاجني وغيرهما، بقدر ما أدعو إلى قراءتهم واستثمارهم في أفق تفكيرنا الجديد. والذين لا ينظرون إلى ما صنعه الآخرون قديما أو حديثا، لا يمكنهم المشاركة في تجديد المعرفة.  وقد يكون  منح جائزة قيّمة للبلاغة الجديدة من بين الوسائل التي يمكننا أن نشجع بها التجديد ،ونقف في وجه التيار التقليدي القوى.