المسطرة الجنائية ستخضع حتما للدستور و أنظمة المعلومة
إدريس الأندلسي
خير البدء في الكلام عن التبليغ عن الفساد يتجسد في تقدم العلم و قدرته على تتبع أعمال الإنسان. علمت، بحكم الممارسة في المجال المالي، أن محاربة الغش الضريبي بدأت بالفعل من خلال تطوير نظام المعلوميات و بناء قواعد البيانات المتشابهة. وصل أحد أصدقائي و زملائي لقيادة التدبير الجبائي، فكان تركيزه كبيرا على تسخير العلم لتحقيق العدالة الضريبية. سمعت آنذاك بعض أصحاب المصالح الكبرى يؤكد على أن هذا المدير هو الأخطر على التهرب و الغش الضريبي. و لأن العلم بلغ في زماننا مرحلة الذكاء الاصطناعي الفاعل، فلقد أصبح بالإمكان فضح الفاسدين. هذا الذكاء الذي اخترق حياتنا الشخصية يعرف استهلاكنا من الغذاء، و تنظيم أعمالنا، و أين سافرنا و ربما حتى شيئا من حياتنا الحميمية. يعرف الصالح منا من الطالح، و يتعدى ذلك ليرصد تطور حجم ما نمتلك من لباس و سيارات و عقارات و كيفية اقتناءها. فحتى إن غيرنا جزءا من مسطرتنا الجنائية فإن المعلومة ستظل معروفة للصحافي و المفتحص للحسابات و حتما للقاضي.
لا تحزنوا يا محبي الوطن و المخلصين له. ستظل كل المساطر ،بما فيها القضائية و القانونية و حتى الإدارية، غير قادرة على حجب الحقيقة. قد يعم الظلام و تسيطر العتمة للحظات، و يتسلل المجرم لكي يقوم بأفعاله، و قد يصل مبتغاه ظانا أن الحيلة الذكية تقهر كل القوانين. سيطرت ظاهرة الأغنياء، أصحاب الأرقام القياسية في الاغتناء المسمى ، حقا، بالسريع. سلكوا أصعب و أسهل السبل للانقضاض على المال العام و الخاص. قدموا أنفسهم لمجتمع، في حالة هشاشة، على أنهم العارفون، و الأذكياء، و ذوي النفوذ، و القادرين على تملك آليات قمع من تصدى لسلوكياتهم الإجرامية. أخذوا المناصب، و تمكنوا من العقار العمومي و اتقنوا آليات الترامي على ملك الغير، و أصبحوا أصحاب القرار، بل و حتى نجوم الظهور عبر التلفاز خلال جلسات البرلمان بغرفتيه. و ليس كل من اعتلى منصة الخطاب من ضمن تلك الاقلية التي تستعمل ممارسة السياسة لخدمة مصالحها. و لكن الإساءة تأتي من اقلية مهيمنة تسيطر على جمعيات و أحزاب. و تمتلك القرار و الإساءة إلى المؤسسات. وتصبح بعض الأغلبيات، غير الملتزمة، سندا للفاسدين.
أصيب الكثير من المواطنين بإحباط حين تم منع جمعيات محاربة الفساد و النضال من أجل حماية المال من التوجه إلى المؤسسة القضائية. صوتت الأغلبية الحالية على البند الثالث من مشروع قانون المسطرة الجنائية. و تقول هذه المادة أنه “لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات. كما لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية إلا بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك. خلافا للفقرة السابقة، يمكن للنيابة العامة المختصة إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية تلقائيا في الجرائم المشار إليها أعلاه إذا تعلق الأمر بحالة التلبس”. و هكذا سيصبح دور المجتمع المدني مقتصرا على دور المتفرج، و الملاحظ و الذي سيصدر بلاغات دون أثر على السعي إلى المساهمة في إقرار حق حماية المال العام.
قد أتفق مع المقتضى الذي يؤكد على دور المفتشيات العامة للمالية و للإدارة الترابية و لتلك التي تتبع للوزارات، و لكن العارف بمجال التفتيش العام سيشك في إمكانية تفعيل هذا المقتضى. و أسباب هذا الشك كثيرة و متعددة و مرتبطة ارتباطات وثيقا بعلاقة كافة هذه المفتشيات بالسلطة التنفيذية، و بكل من يمتلك قرار التأشير على البرنامج السنوي لمهام التفتيش. و الأمر يزيد ” حرجا ” حين يتعلق الأمر بموافقة الوزير، صاحب الوصاية، على محتوى التقرير. و هذا واقع عاشه الكثير من المفتشين منذ سنين. و الكل يعرف أن شبكات العلاقات الحزبية و الإجتماعية قد يكون لها أثر على طمس حقائق لحماية فلان و علان من متابعة أكيدة. و لولا المجتمع المدني لما وصلت قضايا عديدة إلى القضاء. و لنا في كل فضائح مسؤولينا الموجودين أمام القضاء خير مثال على تنازع قوى الشر ضد قوى الخير. فلولا جمعيات المجتمع المدني، لما تحركت يد العدالة في كثير من قضايا الفساد الذي وصل إلى بعض جامعاتنا و بعض ” أشباه الأساتذة ” في قضايا مزجت الفساد بالجنس و الرشوة و الاغتناء السريع و تكوين شبكات إجرامية. و هكذا تم الهجوم على مؤسسات كانت، إلى عهد قريب، شبه مقدسة رغم تنوع مناهج البحث و التحليل و الرأي.
و يجب التأكيد على أن جمعيات محاربة الرشوة و الفساد يجب أن تخضع لأعلى معايير الصدقية و النزاهة، و كذلك الحماية. و يجب أن يعتبر التشهير و القذف و الاتهام غير المؤسس على معطيات و وثائق مزوة أو غير موجودة، كلها وسائل للمساءلة القانونية ضد هذه الجمعيات. و يجب أن يعتبر كل ابتزاز في هذا المجال جريمة يحاسب على ارتكابها القانون.
٢ و تظل قضايا الاغتناء السريع الذي يصعب على المفتشيات و الجمعيات الحقوقية تتبعه و تبريره و الحصول على وسائل إثباته، سببا وجيها و مبررا لتدخل القضاء. قد يتجاهل البعض انتفاخ ثروات منتخبين، غير مستثمرين و لا ممارسين لتجارة أو خدمات اقتصادية، و لكن أعين المجتمع تتميز بإمكانية الرصد العميق. ذلك الغني، الذي يسكن في الأحياء الراقية، و يعيش عيشة كبار الأغنياء و يمول ” بغدق حاتمي” حملات انتخابية، يجب أن يتابع و يوجه إليه سؤال ” من أين لك هذا؟ “.
و لكن ما ينتظر هذه الحكومة و أغلبيتها، و ذلك مهما وضعت من قوانين تحد من الرقابة الإجتماعية التي تناقض الدستور و كافة العهود الدولية التي التزمت بها بلادنا، هو أن آليات الذكاء الاصطناعي الحالية، و اللوغاريتمات التي تدعمها، ذات قوة تفضح كل تقنيات الفساد و الاغتناء السريع. و للأخبار، فقد فتحت الصين مستشفى بدون أطباء و لا ممرضين، و بدون أخطاء طبية.
و من له باب واحد ” الله يشدو عليه”. أقفل البرلمان باب الترافع المجتمعي لمحاربة الاثراء غير المشروع و الفساد. و لكن باب المؤسسات الدولية لا زال مفتوحا، و لا زال الحصول على المعلومة ممكنا من داخل كل المؤسسات، و لا زال تطور الفضاء الأزرق حاملا لمفاجئات بالصوت و الصورة، و بذكاء اصطناعي سيفضح يوميا من يراكمون الثروة بطريقة مصطنعة خارج الإستثمار في الفلاحة و الصناعة و الخدمات. و لقد رأى كثير من هؤلاء كيف أن خوفا كبيرا سكنهم قبل نهاية السنة ، و كيف زاد حجم الودائع البنكية بمئات الملايير. محاربة الفساد بالذكاء الاصطناعي ممكن. و لا أظن البتة أن سلطتنا القضائية ستمتنع عن إستعمال هذا الذكاء من أجل الوطن. و لا أظن أن المجلس الدستوري لن يراعي مقتضيات الدستور و أهمية الالتزامات الدولية المملكة المغربية في مجال حقوق و واجبات جمعيات المجتمع المدني المسؤول و الخاضع بدوره للمحاسبة و التبليغ عن أخطاءه. ممارسة السياسة في البرلمان، و بهذه الطريقة، تزيد من احتقانات لا تخدم توازنات و قوة مؤسساتنا. و” الفاهم بزاق، تواضع و اسمع و اقنع بما لديك “.