آخر الأخبار

لحظات من الزمن الجميل ( ساعي البريد )

عبد الصادق النوراني

من منا من لا تزال ذاكرته منقوشة بصورة ذلك الرجل الوقور بلباسه المتميز الأنيق برابطة عنق وطربوش تعلوه نجمة راية المملكة المغربية الذي يجوب الأزقة والدروب بدراجته الهوائية ومحفظته المملوئة بالرسائل الصفراء والطرود والمجلات والحوالات يوزعها على أصحابها بوجه بشوش مبتسم وتحية سلام ؟

من منا من لم ينتظر ساعات طوال صباحا بجانب العمود الكهربائي المثبت بمدخل الزقاق ينتظر بشوق وشغف ذلك الرجل ليتسلم منه رسالة كانت لكتابتها طوقوس ولقرائتها حلاوة وطلاوة ، أو ليستخلص منه حوالة بعثها أخ مغترب أو طرد به هدايا من صديق عزيز ؟

من منا من لا زال يتدكر ذلك اليوم الذي تسلم من هذا الموضف الوقور رسالة نجاح في امتحان خول له ولوج سلك الوضيفة ؟

إنه يا سادة بكل بساطة ساعي البريد أيام زمان .

هذا الموضف الذي كان يعتبر زمانئذ صديقا للعائلة مؤتمن على أسرارها وأسرار أفرادها واحدا واحد دون البوح بسر هذا لهذا مما جعله محط تقدير واحترام من طرف جميع سكان الحي ، يستدعى للحفلات والأعراس وتقدم له الهدايا بسخاء كبير احتراما وإجلالا لمقامه وقدسية مهنته .

كان وقتئد يغيب عن الحي شهرا في العام للإستمتاع بعطلته السنوية ، وحينما يغيب بين هذا وذاك لمرض تتكاثر عليه المعايدات في منزله من طرف سكان الحي وإن غاب يوما لقضاء غرض من أغراضه يستوقف مئات المرات في جولته في اليوم الموالي لإجابة السكان عن سبب غيابه .

كان حبنا له حبا جما وتقديرنا ومودتنا له بلا ضفاف لأن كلمات الرسائل التي نتسلمها منه غالبا ما كانت تخرجنا من سرير الغيبوبة وترمم روحنا وجسدنا بل وعقلنا في تلك الأيام الصعبة .

كثير من أطر الدولة المغربية الكبار هم أبناء سعاة البريد فمنهم الطبيب والوزير والمهندس وربان الطائرة والضابط السامي …لأن المهية الشهرية التي كان يتقاضاها حلالا في حلال ومشفوعة بدعوات ساكنة الحي .

الآن وقد تغير كل شيء بفعل العولمة والتكنلوجيا ومنطق الربح والخسارة بعدما تحول البريد من وزارة إلى مكتب وطني ثم بريد المغرب ثم إلى مجموعة بريد المغرب ولا نعلم ما ستجود به الأقدار حتى أصبحنا نخشى على مهنة ساعي البريد أن تصبح قصة من قصص التاريخ يرويها الآباء لأبنائهم.

ولعل واقع حال هذه المهنة لا محالة يصب في هذا الإتجاه بعدما تم تغييب الشق الإجتماعي فيها واستبداله بالشق التجاري الذي يخضع لمنطق الربح والخسارة وتحقيق الأهداف وتطبيق بعض التعليمات التي لم تزد هذه المهنة شيئا يذكر بل جعلتها هدفا للمنافسة الشرسة من طرف بعض المهن التي تبسط إجراءات التسليم في مقرات الإقامة .

ولنا عودة لواقع ساعي البريد حاليا بالتفصيل والحجة والدليل فيما يأتي من الأيام .

يتبع….