آخر الأخبار

لا أكره السياسة، أكره من يفسدونها

إدريس الأندلسي

أصبحت كتابة مقال يحمل رأيا في ممارسة السياسة منبعا لنعت الكاتب بأنه عدو للسياسة و للأحزاب و النقابات ، و بعض الأحيان حتى للوطن . و يحدث هذا الهيجان المتمثل ،في سوء تملك استخدام ” النعوت” بكل الأشكال و الألوان ، في خطابات أغلب مكونات منظومتنا الحزبية و حتى” التكنوقراطية و من طرف المنتفعين من الريع السياسي و الإقتصادي . إن أراد الكاتب أن يسلم من النعوت المسيئة لشخصه، و حتى للموقع أو الجريدة التي تنشر أعماله ، يصبح لزاما عليه أن لا يكتب عن تفشي الرشوة، و انتشار الفساد، و اقتصاد الريع، و استمرار الاغتناء السريع و عدم طلب التوضيحات حول النعم الكثيرة التي تظهر على كثير من أعضاء و رؤساء المجالس الترابية، وبعض البرلمانيين، و حتى بعض المعارضين و بعض المسؤولين في عدة وزارات من ضمنها وزارة التعليم العالي التي ذاع صيت فضائحها خلال السنوات الأخيرة. و الأمر يتعلق أيضا بالمؤسسات و المقاولات العمومية التي ينعم بعض أطرها بكرم فاق إمكانيات حاتم الطائي. لا يجب عليك حتى إبداء رأي ، أو التعبير عن إعجاب بتقرير صادر عن المجلس الأعلى للحسابات، أو المفتشية العامة للمالية ،أو دراسة صادرة عن ترانبرانسي المغرب.
أريد التأكيد على أن أغلبية أطر هذا البلد من مهندسين و أطباء و أساتذة و فلاحين و عمال يحبون وطنهم حتى النخاع. و وجب التأكيد على أن التاريخ الحديث للمغرب سجل حجم التضحيات التي قدمها الجميع من أجل الاستقلال. لا يعرف الكثيرون ، من اؤلئك الذين يسيطرون على بؤر القرارات المؤدية إلى الاغتناء السريع، أن الفنانين المغاربة ساهموا في نسج عرى الدفاع عن بلادهم. يكفي أن نذكر محمد فويتح حين تغنى ب: ” اومالولو تم بكيت أنا” حين امتدت أيادي الغدر الاستعماري للسلطان محمد الخامس و أسرته و نفيه لأنه قال لا لإملاءات المستعمر. هل يمكن أن ننسى إبداعات عبد الوهاب الدكالي، و هو يتغنى بالوطن و بمشاريع الأمن المائي، مشاريع التنمية، و بمشاريع السياحة و الصناعة التقليدية. و هل يتذكر الكثيرون أن محبي الوطن لا زالت تنتجهم هذه الأرض ليتغنوا بجمالها و جغرافيتها كما فعل نعمان لحلو و مولاي أحمد العلوي و بن عبد السلام، و شعراء الملحون و غيرهم من المبدعين في مجال المسرح و الفنون التشكيلية و السينما.
و أريد التأكيد أيضا على كثيرا من المفكرين، و الفلاسفة، و المؤرخين، و الإقتصاديين سكنهم هم بلادهم. حملوه بمرارة و تحملوا مخاضا صعبا أسفر عن خزانة من الكتب التي لا زالت مرجعا علميا مليئا بالانتماء للوطن. نسي أبطال هذا الزمن تلك اللبنات التي كانت مصدر بناء تاريخ الفكر الإنساني المغربي. سخر الفقيه المنوني حياته لتأسيس علم البيليوغرافيا المغربي، و سخر الفيلسوف الحبابي و الأستاذ العروي و المعلم الجابري و غيرهم كل حياتهم لبناء معلمة فكرية يمكن اعتبارها بوصلة للاتجاه نحو العلم و المعرفة و الحضارة. وقف صناع الفكر السياسي و السيسيولوجيا من الخطيبي و جسوس، و فاطمة المرنيسي و غيرهم في قلب و هوامش المغرب ليستنبطوا بعض ” القوانين” ، و تتبع عملهم باحثون من أمثال الكبير ” بول باسكون” و محمد الناجي، و الحمودي و فريق من باحثي المعهد الوطني للبحث الزراعي و الجامعة المغربية على العموم.
لقد بحث العلماء عن علاقة السياسة بكثير من الممارسات السياسية، و تأكدوا من تغير وسائل التواصل مع الناخبين. و تأكدوا أن وزارة الداخلية ، في عهد الراحل إدريس البصري، كانت تسيطر على ميدان صنع القرار الانتخابي. و سيستمر منبع القرار ذو خصوصية مغربية توجد تحت سيطرة من يقرر في الخريطة الانتخابية. و لا يمكن اعتبار هذه الخريطة حقيقة علمية رغم اجتهادات الأجهزة الترابية. عندما يعلو صوت الحركات الإجتماعية، و تكون قادرة على صنع الفعل الترابي، تصبح قادرة على تحصين فعلها. و سيظل الفعل الإجتماعي المفاجئ عاملا في تغيير قواعد اللعبة. من كان على علم مسبق بفعل أحداث 20 فبراير؟ سيطرت المفاجأة على الكثيرين، و فجر هذا الحدث ثورة دستورية غيرت العديد من القواعد الدستورية.
و ظهرت خلال كل هذه التحولات ، كثير من القواعد العمل الصحافي. برزت حرفية كثير من وسائل التعامل مع الخبر و التعليق عليه. و لكن ثورة حرية الصحافة المغربية عرفت انتكاسة غيبت الكثير من المجلات و الجرائد التي لم تعد مقبولة من طرف بعض الأجهزة. و لم تترك كثير من الأحزاب هذه الفرصة تمر دون أن تمر إلى مرحلة توافق جديدة مع ديمقراطية تعتمد على وسائط تضع الأولوية في يد من يمتلكون قدرة على زيادة التأكيد على الأعيان في التأثير على القرار.
و سيظل التحليل لسبل الوصول إلى سلطة القرار الترابي مخيفا لمن يخافون من مراقبة ممارسة السياسة. سيظل ذلك الذي يتابع ثروات المنتخبين، مشتبها في كل حركاته، و اعتباره عدوا للسياسة و لمن يمارسونها. أن تتكلم عن علاقة ممارسة السياسة بالاغتناء السريع، فأنت تعرض نفسك لكل اوصاف يطلقها بعنجهية، أعداء الوطن. و لنا في طريقة دفاع وزير العدل اليساري السابق، و القائد الحالي في حزب أغلبية حكومية، خير دليل على أن المجتمع المدني لا يجب أن يكون فاعلا في الدفاع عن بلاده. و لكن بلادنا و مؤسساتنا الحقيقية ستظل سندا ضد كل انحياز يحاول قتل ممارسة الحق في المحافظة على مؤسسات الوطن. و صلت جرأة هذا الوزير إلى مقارنة ميزانية الجماعات بميزانيات كبرى للمؤسسات العمومية التي لا تطالها المحاسبة، حسب تلميح سياساوي أمام البرلمانيين . و ينسى أن فساد بعض الجماعات الترابية لا يرتبط بحجم الميزانيات، و لكن بحجم الرشاوي و بالأهمية التي تكتسيها قراراتهم في مجال التصاميم العمرانية و العقار و الامضاءات على وثائق التعمير و غيرها من الوثائق ” التقليدية” التي تفرض على المواطن . أما التلاعب بالمال العام فيظل ذا أهمية أقل في خارطة المخاطر التدبيرية في كافة المؤسسات.
سيظل كثير من أبناء وطني محبين للسياسة كمجموعة روافد لتقوية عضد البلاد. و سيظلون في مواجهة مع من لا يرون في السياسة إلا مجموعة أغراض تؤدي إلى الاغتناء السريع ،و حماية مصالح و محاربة المحاسبة و لو كانت ركنا من أركان دستور بلادنا. يجب أن يظل الفاعل الجمعوي الملتزم، و النظيف و الصحافي المهني النزيه و المثقف الفاعل في التغيير، أركانا من مؤسسات حماية الوطن و المواطن. و مهما طال الزمن، بالنسبة للمفسدين، فلن يتخلى أي مخلص للوطن، عن تفعيل ” الإفلات من العقاب “.