من أجل حكامة ترابية بواسطة الكفاءات النزيهة و وكالات التنمية
كفى من تدبير الأميين و الفاسدين للشأن العام
إدريس الأندلسي
لا أظن أن الديمقراطية المحلية و الإقليمية و الجهوية سوف تحدث التغيير المطلوب في غياب الكفاءات، و ذوي القدرة على تنزيل المشاريع بالنزاهة المطلوبة. بدأ مسلسل تنزيل سياسة إشراك منتخبين في تدبير الشأن المحلي منذ سنة 1977. نجح البعض في غرس أولى الخطوات المؤدية إلى منجزات في إطار مجالس محلية. أتذكر صراعات ببن بعض عمال الأقاليم و بين بعض المنتخبين من ذوي الحضور المهني و السياسي على حضور فاعل في كثير من المدن. تواجه محمد الخليفة الاستقلالي في مراكش مع العامل مصطفى طارق ذو التكوين الأمني، حول تدشين مشاريع بمراكش. و نزل الأستاذ المبرز و السيوسيولجي الراحل، محمد جسوس إلى الميدان كمنتخب في الرباط ليربط نضاله بشبكة الإنارة بالعاصمة، و يهتم، رفقة كثير من النخب السياسية و الثقافية، بمشروع تزويد مدينة الرباط العتيقة بشبكة التطهير الصحي لم تكن تتوفر عليها.
و تولى الكثير من أشباه السياسيين مهام تدبير شؤون مدننا الكبرى، و كثير من جماعاتنا الترابية في المناطق الحضرية و الريفية. نجح بعضهم في إمتحان النزاهة و تدبير الشأن العام ,و ظهرت كائنات انتخابية أتقنت لعبة التحالفات و إفساد الشأن العام المحلي. و شهد المجال القضائي متابعات أوصلت كثير من المنتخبين إلى السجون. و رغم توفر بلادنا على منظومة قانونية لمواجهة المفسدين، أعطت كثير من الأحزاب، تزكيات لأشخاص، لم يخضعوا لميزان التقييم و البحث في مستوى الكفاءة و النزاهة، قبل الانتخابات. و أصبحت كثير من الأحزاب تضطر لتبرير تزكيتاها لأشخاص تورطت في ملفات لا زال القضاء يتداول في شأنها. و تم إصدار أحكام نهائية في كثير من قضايا الفساد المرتبطة بسوء تدبير الشأن المحلي.
لا أخفي معارضتي لإسناد تدبير الشأن المحلي للأمي، و لذوي السوابق، و لعديم الكفاءة. لا ديمقراطية محلية أو إقليمية أو جهوية في غياب الكفاءات النزيهة. أفضل الكفاءة الخاضعة للمحاسبة المستمرة على انتخابات تمكن صاحب الأموال من ارشاء مئات المواطنين، و السيطرة على مجلس. يحتاج المغرب إلى الكفاءات و ليس إلى من يفسدون السياسة. و تتحمل احزابنا مسؤولية كبرى في كل مظاهر الفساد و غياب الكفاءة التي تتسبب في تدمير صورة بلادنا، و السعي إلى دفع المواطن إلى فقدان الثقة في مؤسسات بلاده.
و يضطرني هذا الواقع إلى تعزيز الثقة في وكالات التنمية و مؤسسات تلعب أدوارا طلائعية في مجال تدبير المشاريع و تنفيذها على الصعيدين المحلي و الجهوي . شاءت الأقدار و المسار المهني أن أطلع على أدوار وكالات تنمية مناطق في مختلف مناطق المغرب. يمكن أن ننتخب مجالسنا، و يستحسن أن نختار المهندس و الأستاذ و الطبيب، و خصوصا ذو السيرة النظيفة من بينهم. و لكن تنفيذ المشاريع لا يجب أن يسند إلى المنتخبين ، و لكن إلى برمجتها و متابعة تنفيذها. و يجب أن توكل مهام التنفيذ إلى وكالات مختصة.
و قد تابعت خلال هذا الاسبوع ما دار في مجلس إدارة وكالة تنمية اقاليم الشمال. تأكدت أن هذه الوكالة، كغيرها في جهة الشرق، و الجنوب و الأقاليم الجنوبية تخضع، طيلة السنة، لافتحاص مفتشيات السلطة التنفيذية، و لمراقبة المجلس الأعلى للحسابات . و أكاد أجزم أن المغرب يحتاج إلى مؤسسات تنفيذ المشاريع أكثر من أي وقت مضى. صحيح أن النصوص القانونية التي تؤطر تدبير الجماعات الترابية تشير إلى أهمية مؤسسات تنفيذ المشاريع المحلية و الجهوية. و لكنها لن تنجح إذا ظلت خاضعة للمنتخبين و لهوياتهم الحزبية، و خصوصا لما يخضعون له من املاءات سياسوية ضيقة. قد يكون الموظف منتجا و ملما بمهامه تحت إمرة مدير يخضع لمراقبة مباشرة من رئيس الحكومة، و سيكون الموظف عرضة للتضييق إذا كان تابعا، و خاضعا لسلطة مسؤول في جماعة ترابية، لا كفاءة و لا تكوينا لديه.
و ستظل وكالات تنمية اقاليم الجهات التي يرأس مجالس إدارتها رئيس الحكومة، أحسن ما انتجته تجربة بلادنا في تدبير التنمية الترابية. و لنا في اعترافات رئيس مجلس، بلدية القصر الكبير أمام القضاء، أكبر تعبير عن هوة تفرق بين من لا يعرف قراءة وثائق يضع توقيعه عليها، و قدرته الفعلية على التدبير، مقارنة بغيره.
و لكل ما سبق. ومن أجل تسريع التنمية المحلية، وجب حماية الديمقراطية المحلية بالكفاءات و بالمراقبة الدورية، بما في ذلك تتبع حسابات و ممتلكات كل من يدبر الشأن العام. و لقد أظهرت الوكالات التي تنجز مشاريع بعض جهات بلادنا قدرة كبيرة على الإنجاز و التتبع و تقديم الحسابات. و لقد وجدت في التقرير ٣الأخير لوكالة تنمية اقاليم الشمال كثيرا من الجوانب الإيجابية التي خضعت لتقييم مجلس إدارتها الذي تراسته، نيابة عن رئيس الحكومة، وزيرة الاقتصاد و المالية.
و يجب التركيز على الإنجازات وتقييم مستوى إنجازها كمعيار لكي نفرق بين الخطاب المالي و التقني المهني و بين الصراخ الحزبي “السياسي” في مجال التنمية المحلية و الجهوية. أعود لقراءة أرقام إنجازات وكالة تنمية مدن الشمال، وفي القلب غصة مما يقع في مدن كبرى من فوضى، و كثير من حالات غياب الإنجاز. أنجزت هذه الوكالة، التي تم تدبيرها من طرف كفاءات وطنية عليا، بكثير من النزاهة، مئات المشاريع في تطوان و طنجة و الحسيمة و كل الجماعات الترابية التي توجد بجهة الشمال. واكبت هذه الوكالة كل مشاريع فك العزلة عن الكثير من المناطق، و أشرفت على كثير من مشاريع إعادة إعمار الجماعات التي تضررت من جراء زلزال الحسيمة سنة 2004 . و قد أشرفت كذلك على مشاريع إعادة هيكلة شبكة الطرق في تطوان و طنجة و أصيلة، بالإضافة إلى إعادة إعمار المدينة العتيقة بتطوان و طنجة و شفشاون. و لا يجب تصديق ما يوجد في تقارير هذه الوكالة إلا بعد زيارة التحقق من إنجازاتها في الميدان. و يكفي أن نقارن إنجازاتها، و إنجاز مثيلاتها في المناطق الشرقية و الجنوبية و الصحراوية، بكثير من جماعات حضرية و قروية، للقول أن مصلحة بلادنا تحتم دعم هذه الوكالات لضمان الإنجاز تحت رقابة مستمرة، و بمعايير جودة مهنية مضبوطة.
و قد تجاوزت الميزانية الموجهة للمشاريع التي خصصت للتنمية بمناطق الشمال حوالي 51 مليار خلال عشر سنوات الأخيرة. و وصل حجم التمويل الذي تم تدبيره من طرف وكالة تنمية اقاليم الشمال أكثر من 27 مليار درهم. و قد غطى تدخل هذه الوكالة عدة برامج ذات طابع تنموي أدت إلى تمويل و تنفيد ما يقارب 4000 آلاف مشروع. و ستظل أهم الخلاصات هي أن الكفاءة المهنية، و المراقبة المستمرة، و غياب التضييق السياساوي على برامج الإنجاز هو سر نجاح البرامج التنموية.
وإذا أسندت الأمور إلى غير أهلها، فانتظر الساعة. و لنا في بعض القابعين في السجون، من مسيرين سابقين لجماعات ترابية مجالا للتأمل في ضرورة إختيار الكفاءات النزيهة للنهوض ببلادنا.