آخر الأخبار

“كـرة الـقـدم ديـانـة قـائـمـة الـذات .. و”الـفـيـفـا”فـاتـيـكـان الـكـرة” (1)

سـعـد سـرحـان

لكل لعبة تاريخان: ما قبل اللعب وما بعد الجد.

فلعبة الغولف، مثلا، تطورت عن لعبة شبيهة بها كان يلعبها الرعاة في المروج بين قطعانهم، حيث الحفر طبيعية والكرات من جذور الدوم الصلبة، أما العصي فمعقوفة لأسباب أخرى ليس الذئب أولها وليس آخرها الثمار العالية… وكان أن جاء رعاة آخرون، رعاة أنيقون اقتطعوا من المدن أطرافها النقية وحولوها إلى مروج اصطناعية بها برك ترتوي من عطش الفقراء. ولأنهم يأنفون من رؤية الماعز، فقد أطلقوا بها أسرابا من البط.. هكذا صارت لهم لعبة أنيقة ومكوية بعناية تليق برعاة الشركات والبنوك وقطعان الأرصدة.

الألعاب الأولمبية، أيضا، لها تاريخان. فهنالك الألعاب الأولمبية التي شارك فيها نيرون شخصيا بعربة تجرها ستة خيول في سباق كل عرباته تجرها أربعة فقط، ولم يعتبر أحد ساعتها أن الحصانين الإضافيين عبارة عن منشطات. وهنالك الطبعة المزيدة والمنقحة التي تنقلها القنوات الفضائية الآن، ويعاقب المشاركون فيها على مثقال ذرة من مادة محظورة قد تكون تسربت إلى سوائلهم من أقراص الزكام أو توابل الطعام حتى. أما المتوجون فيها فيصبحون أشهر ليس من نيرون فقط بل من كل آلهة الأولمب أيضا.

أما كرة القدم، وهي مربط الفرس (بالمناسبة، ما رأيكم في إهداء هذه الورقة إلى السيد أحمد فرس؟)، فلها تاريخ مشهور وتواريخ مغمورة لا يكاد يأبه لها أحد. ففي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تأسست معظم الأندية الكبرى بعد أن كانت اللعبة قد خضعت لجل القواعد المعروفة الآن، ولا شك أن الفضل في ذلك يعود إلى الإنجليز. أما ظهورها ولو بشكل جنيني فلم يحظ في الغالب بأسئلة ملحة.

***

الصينيون يعتبرون أنفسهم الآباء الروحيين للعبة، كونهم مارسوها منذ أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، ومعهم ظهرت الكرة المصنوعة من جلد الحيوان والمملوءة بالهواء، ومعهم أيضا ظهر المرمى بقوائمه الخشب وشباكه الحرير ولقد كانت كرة القدم إحدى وسائلهم للتدريب على فنون الحرب… إننا لا نملك إلا أن نصدقهم، فالصين أرض الفلسفات القديمة والديانات الأرضية، أرض اليوغا والكاراتيه… ودودة القز أيضا. والأرجح أنهم لم يتحولوا عن كرة القدم (وليتهم ما فعلوا) إلا بعد أن ألهاهم التكاثر.

اليونانيون لن يعدموا حجة لتأكيد فضلهم في ظهور اللعبة حتى لو استعانوا في ذلك بالإلياذة: “تم ضبط أناوسيكا ووصيفتها تلعبان”. فهم أيضا صنعوا الكرة من جلود الأبقار وملأوها رملا. ولقد كان شائعا لديهم انتزاع الكرة من الخصم بواسطة اليد، ما يجعل اللعبة عندهم أقرب إلى الكرة المستطيلة حاليا. اليونانيون رصعوا تاريخ المعرفة بأسماء عديدة، وإليهم يعود الفضل في تأسيس علم المنطق وفن الشعر… وهم الذين هندسوا الكون بالأساطير العميقة. فهل نستكثر عليهم أن يكونوا، في لحظة طيش، قد لعبوا كرة القدم أيضا؟

الإمبراطورية الرومانية عرفت كرة القدم قبل الميلاد. وهنالك لوحة فنية تبين ستة شبان رومانيين يقذفون بأقدامهم شيئا مستديرا مثل الكرة، ومنقوش على اللوحة “نحن أصل كرة القدم”، ما يحمل على الاعتقاد أن الإنجليز أنفسهم عرفوا اللعبة من الغزاة الرومانيين.

وعلى العكس من الإنجليز، فإن الإسبان أخذوا كرة القدم عن الهنود الحمر الذين كانوا يصنعونها من المطاط. فالقائد الإسباني كورتيز أخذ فريقين من الهنود الحمر إلى اسبانيا حتى تتفرج الملكة على هذه اللعبة وذلك سنة 1528 ولم يدر بخلده (فقد كان له خلد) أنه بعد قرون ستعرف البطولة الاسبانية لكرة القدم استقدام العديد من نجوم اللعبة مقابل ملايين الدولارات وهؤلاء النجوم (هل هي صدفة؟) معظمهم من أمريكا اللاتينية، أحفاد الهنود الحمر على الأرجح.

أما العرب فمدينون لعلماء الآثار والمؤرخين في الكشف عن فضلهم. ففي مدينة القادسية العراقية تم اكتشاف لوحة عمرها أربعون قرنا تمثل قدمي شخص يستعد لتسديد الكرة. أما في مصر، وفي مقابر بني حسن تحديدا، فيؤكد المؤرخ السوفيتي سوسكين أنه وجد رسوما تشبه كرة القدم يعود تاريخها إلى 4500 سنة قبل الميلاد، فيما يذهب الكاتبان السوفياتيان تسيريك وبولوكاشين إلى أن الجد الأول لكرة القدم عاش في مصر التي لم يجد الأثريون بها رسوما فقط، بل وجدوا الكرات أيضا. وإذا كان المؤرخون القدامى يقولون إن اليونانيين أطفال مقارنة مع المصريين، والإشارة هنا إلى العراقة طبعا، فلا نستطيع إلا أن نصدق، نحن العرب، أن الكرة مصرية. فهل يعقل أن يشيد الفراعنة الأهرام وأن يكونوا عاجزين عن اجتراح هذه الأعجوبة الصغيرة: كرة القدم؟.