كانت ساعة واحدة من الأمطار الغزيرة التي شهدتها مدينة آسفي، كافية لفضح واقعٍ عمراني هش، وبنية تحتية مهترئة، ومنظومة تدبير محلي فشلت على مدى سنوات في استيعاب أبسط متطلبات التخطيط الحضري والاستباق المجالي. ما حدث في آسفي ليس مجرد “تساقطات استثنائية”، بل فاجعة حضرية تختزل سنوات من سوء التدبير، ورداءة الاختيارات، وغياب الرؤية.
مشاهد الشوارع الغارقة، والمنازل التي داهمتها السيول، والبنيات التحتية التي انهارت في دقائق، أعادت إلى الواجهة سؤالاً مؤجلاً: من يتحمل مسؤولية ما آلت إليه المدينة؟ وهل ما تعيشه آسفي اليوم قضاء وقدراً، أم نتيجة مباشرة لتراكمات سياسية وتدبيرية خاطئة؟
عندما تكشف الأمطار عورة التعمير
القاعدة العمرانية معروفة: المدينة التي تُخطط جيداً لا تخاف المطر. غير أن ما عرّته الفيضانات الأخيرة هو فوضى تعميرية مزمنة، تتمثل في غياب شبكات صرف فعالة، وتجاهل المجاري الطبيعية للمياه، والترخيص لبنايات في مناطق منخفضة أو غير مهيأة، دون احترام قواعد السلامة الحضرية.
وهنا يبرز الدور المحوري لقسم التعمير، الذي يفترض فيه أن يكون حارس التوازن بين البناء، والبيئة، والسلامة العامة. لكن الواقع يُظهر أن هذا القسم تحوّل، في فترات عديدة، إلى مجال لتدبير تقني ضعيف، أو إلى أداة خاضعة لمنطق سياسي ضيق، بعيد عن المصلحة العامة.
مسؤوليات سياسية لا يمكن القفز عليها
بين سنتي 2009 و2015، تحمل سمير كودار مسؤولية التعمير في مرحلة مفصلية من تاريخ المدينة، تميزت بتوسع عمراني سريع، كان من المفروض أن يواكَب بتقوية البنية التحتية، وتحيين وثائق التعمير، والاستثمار في شبكات التطهير السائل وتصريف مياه الأمطار. غير أن الحصيلة، كما كشفتها الفيضانات، تطرح أكثر من علامة استفهام.
بعد 2021، انتقلت مسؤولية التعمير إلى إلياس البدوي و هو من نفس حزب رئيس الجهة ، في سياق كان يفترض أن يستفيد من دروس الماضي، لكن المؤشرات الميدانية تؤكد استمرار نفس الاختلالات: تراخيص بلا رؤية، توسع عمراني غير متحكم فيه، وغياب سياسة وقائية تأخذ بعين الاعتبار التحولات المناخية والمخاطر الطبيعية.
المشكلة هنا ليست في الأشخاص بقدر ما هي في النموذج التدبيري الذي يفرز مثل هذه الاختيارات، ويُبقي المدينة رهينة لمنطق الترقيع بدل الإصلاح الجذري.
آسفي… من مدينة الكفاءات إلى أزمة البروفايلات
المفارقة المؤلمة أن مدينة أنجبت كفاءات وطنية وازنة من حجم إدريس بنهيمة، الذي راكم تجربة عالية في تدبير المؤسسات الكبرى، تجد نفسها اليوم رهينة لبروفايلات سياسية محدودة الأفق، عاجزة عن استيعاب تعقيدات التعمير الحديث ومتطلبات الحكامة الحضرية.
السؤال المؤلم الذي تطرحه فاجعة الفيضانات هو: كيف انتقلت آسفي من منطق إنتاج النخب إلى استهلاك الرداءة؟ وكيف تحوّل التمثيل السياسي من رافعة للتنمية إلى عبء على المدينة وساكنتها؟
من المحاسبة إلى إعادة التفكير في النموذج
ما وقع في آسفي لا يجب أن يمر كخبر عابر، ولا أن يُختزل في بلاغات تبريرية. المطلوب اليوم هو فتح نقاش عمومي شجاع حول مسؤولية المنتخبين، ونجاعة وثائق التعمير، ودور المراقبة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، بعيداً عن منطق الإفلات من العقاب.
فالفيضانات لم تعرِّ فقط الشوارع، بل عرّت اختيارات سياسية، وكشفت هشاشة التمثيل، ووضعت الجميع أمام مرآة الحقيقة: مدينة لا يمكن أن تُدار بعقلية الأمس، ولا أن تُحمى ببنية تحتية من ورق.
وإلى أن يتم الاعتراف بالأخطاء وتصحيح المسار، ستظل آسفي، مع كل مطر، على موعد مع فاجعة جديدة… ومع سؤال أكبر : من يحمي المدينة ومن يحاسب من خذلها ؟
