آخر الأخبار

غياب التوثيق يعصف بتراث الملحون وأعلامه – 1 –

غياب التوثيق, آفة تعصف بتراث الملحون وأعلامه، الشيخ عباس بن بوستة نموذجا.

هذا شاعر مجيد من أهل مراكش، قوي الشاعرية كثير النقد من الناحية الاجتماعية، لاذع الهجاء، لا تعرف سنة ميلاده بالتحديد، وإن عرف عنه أنه عاش أيام السلطان العلوي المولى عبد العزيز، كان يقطن بحي “قاعت بناهيض” أحد الأحياء العتيقة بمدينة مراكش، وكان يشتغل “قهوجيا” قرب سوق “العطارين” بنفس المدينة، وهو إلى جانب ذلك ينتمي إلى آل بوستة الذين تقدمت فيهم رئاسة بمراكش، وضايقوا الباشا “لكلاوي” حتى قتل أحد أعمامه غدرا، وكان هذا سبب هجائه له في قصائد كثيرة.
كان شاعرا صوفيا ينتمي إلى الزاوية “التيجانية”، ومن أوليات شعره الذي نظمه أيام المولى عبد العزيز، قصيدة “التجانية” في مدح سيدي أحمد التجاني، ويقول في حربتها:

سِيدْنَا مُولاي أحْمد شِيخنا التجاني * ابن سالم الأمجد تاج العارفين
إمام الطايفَة القايمَة بالجمع ولزار صاحب الجوهرة

نظم في جل الأغراض الخاصة بشعر الملحون، وأكثر من الجفريات التي كانت تلائم اتجاهه في التصوف، كما خصص قصائد منفردة لهجاء الباشا لكلاوي، وإن كان يهجوه عرضا دائما في أغلب قصائده. جل كلامه في الحضاري، ويؤدى على الطريقة العيساوية.
توفي رحمه الله تعالى في شهر صفر سنة 1367هـ، الموافق لشهر يناير 1948م.
وإذا تأملنا حياة هذا الرجل القريب جدا من زمننا هذا، نجد حوله اختلافات كثيرة، ومن ذاك على سبيل المثال لا الحصر:
1/ العديد من الباحثين والمهتمين يعتبرون أنه لا علاقة له بأسرة آل بوستة التي كانت حاكمة آنذاك ولازالت لها أثرها في السياسة إلى اليوم، وإنما الأمر فقط تشابه أسماء، لكن المطلع الحاذق، يعرف أن هذه الأقوال لا دليل عليها، وأنها تدخل فقط في باب الديماغوجية التي تسعى إلى عدم الربط بين الشاعر وجذوره الأسرية، والقصائد الهجائية التي كان يجلد فيها الباشا التهامي الكلاوي، وهو شيء نضيفه إلى ما قام ويقوم به البعض من ممارسات يسعى من خلالها إلى طمس معالم التاريخ المغربي الحقيقي، ومحاصرة كل تجربة جادة ساعية إلى كتابة تاريخنا بشكل أكثر نصوعا ووضوحا، لذلك فنحن نصر على أن الشاعر ينتمي إلى أسرة آل بوستة حتى يثبت العكس بالأدلة الدامغة، ومن تمة يجدر بنا أن نربط بين قصائد الشيخ وبعض الأحداث التاريخية التي كانت زمنة الهيمنة الاستعمارية على المغرب.
2/ هذه الرؤية المغرضة والضيقة امتدت حتى وصلت شاعرية الرجل، فنفى عنه البعض أن يكون شاعرا، ذلك أنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وأن له أخا يسمى الفقيه “سيدي امَّانْ” هو الذي كان يكتب الأشعار وينسبها لأخيه عباس خوفا من المتابعة من طرف الحكام آنذاك، وهذا الأمر أيضا لا يعدو ضربا من التخريف، ذلك أن الأمية ظلت سمة ملازمة لغالبية رجالات الملحون منذ نشأة هذا الفن، ولا يعقل أن يكتب الأخ قصائد يخاف من ردة فعل الحكام اتجاهها ومن التنكيل به، فينسبها لأخير مما يوصل الأذى إلى أخيه، وهو أمر غير مقبول إطلاقا، كما لا يجب أن يعزب عن البال أن الشيخ بوستة كان منتميا للزاوية التجانية التي من الأدوار التي تلعبها تعليم المريدين ولو عن طريق السماع.
3/ مسألة أخرى تدخل في طيات أزمة التوثيق، ذلك أن الرجل رغم أنه عاش في عهد قريب منا، وكان بيننا من الأشياخ من عاصره ورآه وجالسه، ورغم ذلك، فهناك اختلاف حول المكان الذي كان فيه مقهاه الصغير، والذي يوزع من خلاله كؤوس المشروبات على زبائنه، وحسب ما يرويه هؤلاء، ليس هناك اتفاق بين شخصين حول المكان الذي كان يمارس فيه الشيخ تجارته، مما يجعل كل الآراء عبارة عن رجم بالغيب لا أقل ولا أكثر.
4/ لا نعرف تاريخ ميلاد الشاعر بالضبط.
5/ أن العديد من قصائده الشعرية ضاعت ولا يعرف عنها شيء، ومن ذلك: قصيدتين تحت عنوان “الفجر 1و2″، وقصيدة “العزو” التي رثى فيها عمه المقتول من طرف الباشا الكلاوي، وبعض القصائد الهجائية والصوفية وغيرها.
6/ وحتى بالنسبة لشعره الذي انحدر إلينا عن طريق المشافهة، فإننا نجد فيه تبديلا ومغالطات وكلمات غير مفهومة، ومن بين الأدلة التي نوردها في هذا الصدد ـ على سبيل المثال لا الحصرـ، قصيدة “السفرية”.
وهي قصيدة مشهورة جدا، وتكشف جليا مدى قوة شاعرية الرجل وانشغالاته وسلاسته في تناول القضايا، مما يجعله واحدا من فطاحل شعراء الملحون المتأخرين، وقد جمع فيها بين الموعظة والتوجيه، والهجاء اللاذع، والحِكم التي انطلق فيها من تجاربه الشخصية، ومخالطاته لعلماء عصره ورجالات الصوفية، زيادة على ذلك، فالشيخ “عباس بوستة” كان موفقا بشكل كبير في توظيف أمثال العامة والاستفادة من أقوالهم، والعمل على توظيف هذه الأمثال كوسيلة لتقريب الصورة من جميع الناس وخلخلة لا وعيهم حتى يصبحوا مشاركين في الأحداث، لكن المشكل المطروح والمرتبط بغياب التوثيق، هو بعض المفردات التي كتبت ونقلت بطريقة غير سليمة، وتداولها النساخ والمنشدون دون أن يولوها اهتماما، مما يكشف على أن هذه القصائد تؤدى بشكل ببغائي دون احتفاء بالدلالة اللغوية للكلمات، والبحث عن الصحيح منها، والأخطر من ذلك كله كون الكلمات التي تردد لا يعرف أحد معناها وليس متفقا عليها، حتى أن النساخ الكبير “دلال الحسيكة” وقع في نفس المطب، وسار في نفس الخطأ، ولا أكتم القارئ سرا أنني طفت على الكثير من الباحثين والأشياخ في العديد من المدن المغربية، من أجل توضيح معاني هاتين الكلمتين في قصيدة “السفرية”، وتجولت بين المهتمين بمدينة مراكش، ولم أجد لسؤالي من جواب سوى الكلام المبهم الغير مفهوم، وبقيت مهموما مدة من الزمن منشغلا بهذا الأمر، حتى فتح الله لي بابا أرشدني إلى بديل لهذه الكلمات لعله أن يكون هو الأصل، والكلمتين توجدان في القسم الخامس من القصيدة، حيث يقول الشيخ برواية الشيخ “دلال الحسيكة”، ومن تابعه في ذلك من النشادة وأشياخ الكريحة دون تمحيص:

من يتولى يا صــاح(29) * زاد قلبه اقسـاح(30) * لــو كان مـن الصلاح * يعود لــص أو قبيح
مــن لا يسعى فصلاح * لا فحكــم إيصلاح * والظالــم مــا يصلاح * لـــو يقــولــو امليح
لحت احجرت الرداح(31) * من السطاح اتلاح * جاك القـرد الشطـاح * مـن أولاد المسيــح

عتــروس أوقالــو شــــادي(32) عجبـــا للسلماج(33) العـــوهــــاج(34) قــــــاد
واليــــــر ازهـــر فالشادي(36) ورجــــع بالقهــــــر(37) عليه حاكمه فالبلاد
راهـــــــــــــادي هــــي هــــــــــادي(38)

عبد الجليل بدزي / مراكش