تشهد الساحة المغربية اليوم نقاشاً واسعاً حول موجة التوقيفات التي طالت عدداً من صناع محتوى التفاهة والإساءة، ممن اشتهروا ببث فيديوهات تقوم على السخرية المبتذلة والتجريح وكشف تفاصيل حياة الناس. ورغم انتشارهم بين مدن طنجة الدار البيضاء والرباط… ورغم الملايين التي يتابعونها، فإن هذا النوع من المحتوى لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة مسار طويل فتح بابه منبر إعلامي واحد تخصّص لسنوات في النبش في أعراض المواطنين والتشهير بهم، إلى درجة جعل من معاناة الناس “سلعة” يومية تضمن له نسب مشاهدة عالية.
هذا المنبر الذي بنى شهرته على القصص الخاصة، والخلافات الأسرية، والدموع، والصدمات، كان أول من قدّم للمتابعين نموذجاً جديداً من “الإعلام الملوّث” الذي لا يحترم مهنة الصحافة ولا كرامة الناس. ومع الوقت، لم يبق تأثيره معزولاً، بل جر خلفه موجة واسعة من صناع المحتوى الذين وجدوا في أسلوبه وصفة سهلة للانتشار والربح السريع، فأصبح البث المباشر ساحة لعرض الجراح، وتحولت الخصوصية إلى حق يمكن انتزاعه، وتحولت مشاكل بسيطة إلى دراما مصطنعة هدفها الوحيد تحقيق “التراند”.
ورغم اختلاف وجوه هؤلاء المؤثرين وطبيعة محتواهم، فإن النتيجة واحدة: مستنقع من الرداءة يخلط بين الإعلام الحقيقي وبين التجارة في الفضائح. والمشكلة أن البعض يقدم نفسه على أنه إعلام مهني فقط لأنه يحصد ملايين المشاهدات، مع أن هذه الأرقام لا تعكس جودة المحتوى، بل تكشف عطشاً للفضول وتطبيعاً خطيراً مع انتهاك الخصوصية، وتخلياً متعمداً عن القيم والأخلاق.
الآن، ومع حملة التوقيفات، يطرح الناس سؤالاً مشروعاً: لماذا يُحاسَب من قلدوا هذا الأسلوب، بينما يبقى منبر التشهير الأول خارج المساءلة؟ ولماذا تطال العدالة “الفرع” وتترك “الأصل” الذي صنع مدرسة كاملة في إساءة استخدام الإعلام؟
ما نعيشه اليوم يستدعي وقفة حقيقية ليس فقط لمحاسبة المسيئين، ولكن لإعادة تعريف العلاقة بين الجمهور والإعلام، حتى لا يصبح الألم مادة للتسلية، وحتى لا يتحول السقوط الأخلاقي إلى قاعدة مقبولة.
فالإعلام الحقيقي لا يبني نجاحه على دموع الناس، بل على الوعي والاحترام والمسؤولية. والمجتمع لم يعد يطلب الكثير… فقط عدالة تطال الجميع بلا استثناء.
