آخر الأخبار

عبد الوافي لفتيت… الوزير الذي قرّر كسر صمت الفساد الجماعي

في لحظة برلمانية استثنائية، أطلق وزير الداخلية السيد عبد الوافي لفتيت تصريحاً قصيراً في كلماته، عميقاً في دلالاته، حين قال أمام نواب الأمة :

” گاع اللي دا شي أرض ديال الجماعات إيردها بخاطروا ولا غايردها بخزيت.”

عبارة صادمة في جرأتها، أعادت إلى الأذهان صورة الدولة التي لا تساوم في المال العام، ولا تتسامح مع من حولوا ممتلكات الجماعات إلى غنائم شخصية.
لقد بدت الجملة وكأنها بيان حرب ضد الفساد المحلي بكل تجلياته، ورسالة مباشرة إلى كل من تجرأ على العبث بخيرات المواطنين.

ارتياح شعبي ورسالة واضحة: الدولة عادت لتسترجع هيبتها

ما إن انتشر تصريح الوزير حتى غمرت موجة واسعة من الارتياح مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرة أن الرجل وضع النقاط على الحروف في لحظة سياسية دقيقة.
فقد ملّ المغاربة من الشعارات الفضفاضة، ومن لجان لا تُثمر إلا التقارير، فجاء خطاب لفتيت ليُعيد الثقة في أن الدولة قادرة على الفعل، لا القول فقط.
إنها لغة الحزم، التي طالما انتظرها المواطن البسيط وهو يرى أراضي الجماعات تُنهب، ومرافقها تُباع، ومشاريعها تُجهض باسم القانون حيناً، وباسمه زوراً أحياناً أخرى.

من الوعيد إلى الإصلاح: مسار وزير لم يأتِ صدفة

لكن المتتبع لمسار السيد لفتيت يعرف أن هذا الوعيد لم يكن لحظة انفعال عابرة، بل امتدادٌ طبيعي لعمل إصلاحي عميق بدأ منذ سنوات.
فمنذ تعيينه على رأس وزارة الداخلية، اختار الرجل طريق الصمت والعمل بدل الشعارات، وأطلق عمليات افتحاص واسعة طالت كبريات الجماعات الترابية، بهدف تشخيص الأعطاب البنيوية التي تُكبّل التنمية المحلية.

ولم يتأخر الإصلاح في الترجمة إلى قرارات ملموسة، حين أصدر سنة 2020 الدورية المشتركة رقم D1205 بتاريخ 18 يونيو، وهي وثيقة يمكن وصفها بـ”الثورة الصامتة” في تاريخ منظومة التعمير بالمغرب.
فقد جاءت لتُعلن نهاية مرحلة الفوضى التنظيمية، وتضع حداً للممارسات التي لا تستند إلى أي أساس قانوني، والتي تحولت على مدى سنوات إلى “عرف غير مكتوب” بين بعض المنتخبين والمصالح المحلية.

“الدورية التاريخية”: تشخيص دقيق واعتراف رسمي بالأزمة

في واحدة من فقراتها اللافتة، تقول الدورية:

“ومن خلال تحليل المعطيات المرتبطة بهاته الفئة من المشاريع، تبين أن الإكراهات المرصودة تُعزى بالأساس إلى عدد من الممارسات التي لا تستند على أساس قانوني، والتي أضحت على مدى سنوات القاعدة المتعارف عليها والمعمول بها من طرف مختلف مكونات المنظومة المحلية…”

هذه الجملة وحدها تختصر حجم الانحراف الذي كان ينخر قطاع التعمير، من تجزئات سقطت تراخيصها، إلى مشاريع سكنية فقدت إطارها القانوني، وصولاً إلى أراضٍ جماعية و طرقات لم تسترجعها الجماعات أو حُوّلت بطرق مشبوهة إلى مشاريع خاصة.
لقد كانت وزارة الداخلية آنذاك تُعلن، بغير مواربة، أن زمن التساهل انتهى، وأن منطق “التأويل الإداري” لن يُستعمل بعد اليوم غطاءً للتفريط في المال العام.

القانون فوق الجميع: تطبيق صارم للمادة 11 من قانون 25.90

من بين القضايا التي أعاد الوزير إحياءها، تفعيل المادة 11 من القانون 25.90 المتعلقة بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية، والتي تنص على سقوط الإذن بعد مرور ثلاث سنوات دون إتمام أشغال التجهيز.
سنوات من التجاهل لتطبيق هذه المادة كانت كافية لفتح الباب أمام تلاعبات خطيرة: مشاريع لم تُنجز، أراضٍ بيعت دون اكتمال التجهيز، وجماعات فقدت حقوقها في التحصيل الجبايات و الأراضي الغير مبنية و المغروسة.

وقد كانت مدينة مراكش مثالاً صارخاً على هذه الانحرافات، حيث فجّرت بعض الملفات فضائح مدوية مثل قضية “سيتي وان”، وأخرى طُمست تحت غبار الصمت الإداري كـملف “فضاءات السعادة”، وهي ملفات ستبقى شاهدة على ما قبل لفتيت وما بعده. ( و سنعود بالتفصيل لملف فضاءات السعادة في مقال لاحق )

حين تصدى الوزير لمحاولات تحويل المرافق العمومية إلى مشاريع خاصة

يُحسب للسيد لفتيت أنه لم يقف عند حدود التشخيص القانوني، بل خاض معارك ميدانية حقيقية ضد من حاولوا الالتفاف على المرافق العمومية، خصوصاً في مقاطعة المنارة بمراكش، حيث حاولت بعض الجهات الحزبية ذات المصالح العقارية تحويل مرافق عمومية إلى مشاريع تجارية خاصة.
لكن يقظة وزارة الداخلية، وصرامة أجهزتها، أجهضت هذه المحاولات، وأعادت الاعتبار لمبدأ قديم جديد: أن المرفق العمومي ملك للمواطن وليس لصفقات السياسة.

ختاماً: رجل الدولة لا يصرّح عبثاً

لم يكن تصريح السيد عبد الوافي لفتيت مجرد “تسجيل موقف”، بل إشارة قوية إلى أن الدولة استعادت زمام المبادرة في معركة تطهير الجماعات من الفساد.
فالرجل الذي خبر دهاليز الإدارة الترابية يعرف أن معركة الإصلاح لا تُكسب بالشعارات، بل بالملفات والمحاسبة.
ولذلك فإن كلمته الأخيرة داخل قبة البرلمان لم تكن فقط وعيداً، بل إعلاناً عن مرحلة جديدة في علاقة السلطة بالمال العام، عنوانها :

“من نهب سيُحاسب، ومن خان الأمانة سيُعزل، ومن ظنّ أن الدولة لا تراه، فهو واهم.”

لقد قالها لفتيت بصوت رجل دولة، وأدركها المغاربة كلّهم بقلوبهم :
هذا زمنُ استرجاع الهيبة… وزمنُ أن يُردّ الحق إلى أصحابه.