آخر الأخبار

صاحبة المقام الرفيع

فتح العون باب واجهة الإدارة الرئيسي والذي يقع في أكبر شارع بالمدينة ، نزلت من سيارتها رباعية الدفع سوداء غامقة اللون لايكاد يرى مابداخلها. بعدما ركنتها بجانب الإدارة. هرول الحارس مسرعا نحوها ببذلته الزرقاء وهو يحييها بطأطأة رأس تعبيرا عن إحترام مبالغ فيه. تسلمه المفتاح وتشير عليه بالقيام بماهو معتاد فيستجيب بابتسامة يلفها كثير من التوسل، هو يعرف جيدا أنها لا تبخل عليهم بعطفها فيبادلونها بالتفاني والإلتزام.
يعرف الجميع أنها شديدة الدقة في الإلتزام بالتوقيت. بجولة بسيطة في الممر وهي تتمايل بكعبها العالي الذي يترك صدى ترتعد له فرائص وممرات الإدارة ، تتفقد من خلالها من حولها وهي كافية لإعطاء إشارة لبداية العمل .الكل يهاب جانبها وهناك من ذهب لتسميتها بالمرأة الحديدية. إمرأة في عقدها الخامس لازالت تحتفظ لنفسها برشاقة تؤهلها للتحرك بكل حيوية ونشاط. يوم مليء كالمعتاد باشتغال لا يتوقف. في عهدها عرفت المؤسسة نقلة نوعية من خلال مؤشرات مطمئنة . الكثير ممن زاروها في مكتبها يعترفون لها بقدرتها على ضبط ميكانيزمات الإدارة. لاتفارق مكتبها البسيط حيث وضعت باقة ورد بشكل أنيق متواضع وملفات مرصوصة ومرقمة بعناية . وصورة لابنها البكر معها في لقطة تذكارية تعود للزمن الجميل وقد تبادلا ابتسامة وفرحة يوم نجاحه . كلما خطفت بنظرتها لمحة حولها إلا وتناسلت أسئلتها حول ظروف عيشه هناك في ديار المهجر وقد تسلم شغل يكافئ دبلومه العالي ،لقد مرت سنة ونصف بالتمام والكمال عن زيارته للبلدة وجاء الدور عليها لتبادله نفس الجميل وهي تنتظرها بفارغ الصبر. تشيح بوجهها على الصورة حتى لا تغرق في دموع لوعة الفراق. وتغمس رأسها في ملف مستعجل وقد ضغطت على زر السكرتارية من أجل الدخول لتتبعه. تتلقى مكالمات هاتفية واحدة تلو الأخري بدون توقف. فتنبه الكاتبة الخاصة أنها غير متفرغة لكل المكالمات وعليها أن تضبط هويتها قبل تحويلها. وهو أمر مفروغ منه ومعروف ولا يحتاج للتذكير. بل في بعض الأحيان نظراتها ترسل إشارات لمن يعنيه الأمر دون كلام. وقد ترعب البعض وهي تنظر شزرا معقوفة الحاجبين ،حين تغضب يبدو الممر خاليا من الموظفين ،الكل يتقي غضبها. لكن من إحتكوا بها لسنوات خلت يعرفون جيدا أن المنصب لم يغير من تصرفاتها ولا طبعها الطيب. حنونة مرهفة الإحساس متتبعة لظروف عيش موظفيها ، تتغاضى في بعض المواقع حتى لا تصطدم مع البعض ،وتحضر مع الجميع في مناسبات الفرح كما في القرح ولم تتخل عنها بنفس المسافة. هي إمرأة إنتزعت إحترام الكل. الكل يهابها لأنها تتفاعل مع كل مستجد.
في الحقيقة وأنا أسرد سيرتها التي جاءت بمحض الصدفة كنت أستمع إلى تقرير لقناة غربية يقول ( أن الست دول التي قطعت أشواطا مهمة وجد متقدمة في محاربة فيروس كوفيد 19 السبب أن الوزراء المسؤولين فيها كلهن نساء.) لكن ما استفزني أكثر أن تأخذ رئيسة وزراء نيوزلاندا (جاسيندا اردرن) قرارا بتخفيض نسبة 20% من رواتب أعضاء الحكومة مساهمة في دعم المال العام وتغطية حاجيات المعوزين من السكان وقد شكل هذا الإجراء نقطة مضيئة في زمن حكومات الريع المتواطئة وخطفت الأضواء مرة ثانية بعدما حققتها في واقعة الهجوم الإرهابي والذي قدمت فيه نموذجا راقيا له من البعد الإنساني الشيء الكثير.
في مجتمع ذكوري بامتياز. قليلا مانعترف للمرأة بقدراتها رغم كل الشعارات المرفوعة تحت عناوين متنوعة ،كثيرا مانسمع كلما أردنا أن نمجد امرأة.نقول أنها ساهمت في صناعة رجل مهم بمقولة “كل عظيم وراءه امرأة ” فهذه المقولة التي نشتشهد بها في كثير من الأحيان في تعابيرنا المتداولة تأتي فيها المرأة وراءه وليس أمامه ، دون أن تجد لنفسها موقع قدم في الريادة وهذا أمر حاصل لاننكره في مخيالنا وما نروجه له ونسعى لترسيخه بكل أسف. فهناك من يجعل من سماع عنوان مشابه لما نحن بصدده بالمقال فرصة للغزل وليس للتأمل. هي أمثلة كثيرة من التفوق وإثباث الذات بيننا لكننا لانلقي لها بالا ، ماعدا محطات معدودة على رؤوس الأصابع في حفل تكريم عابر أومناسبة يتيمة في كل ثامن من شهر مارس لكل سنة ، والحال أنها تبذل من جهدها ووقتها الشيء الكثير دون أن تنتظر اعترافا من أحد. فعلا هي صاحبة المقام الرفيع لأننا نحتاج في كل مرة أن ننزل من عرش كبريائنا الذكوري المتغول لنعترف لها أنها قادرة على تدبير الأمور أحسن منا. شيء من الإعتراف أيها السادة…!
ذ ادريس المغلشي.