مراد طيران
في سياق الردة الحقوقية التي يعيشها المغرب، تتوالى مظاهر القمع والمنع والترهيب ضد الحركات الاحتجاجية السلمية، التي تتخذ أشكالا متفرقة وغير جماهيرية، رغم كونها في العمق تعبر عن مطالب اجتماعية موحدة. احتجاجات مجموعة GENZ212، احتجاجات شبيبات أحزاب اليسار يوم 27 شتنبر 2025، الأشكال الاحتجاجية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، والغضب الشعبي من تدهور الخدمات الصحية، كلها تمثل تعبيرات متعددة عن أزمة بنيوية في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وعن اختلالات عميقة في آليات إنتاج الشرعية السياسية والاجتماعية.
الدولة، في تعاملها مع هذه الحركات، لا تكتفي بتجاهل المطالب، بل تلجأ إلى آلية ممنهجة تقوم على نزع الشرعية عن الفعل الاحتجاجي، عبر ما يمكن تسميته بـ”الشيطنة السياسية” (Diabolisation politique). هذه التقنية لا تستهدف فقط تفكيك الحركات، بل تهدف إلى إعادة إنتاج السيطرة الرمزية (Reproduction du pouvoir symbolique)، حيث يصور المحتجون كخطر على النظام العام، بدل أن ينظر إليهم كفاعلين اجتماعيين يطالبون بحقوقهم. هذا التمثيل السلطوي يعيد إنتاج ما سماه ميشيل فوكو بـ”تقنيات الضبط” (Techniques de discipline)، التي لا تشتغل فقط عبر القمع المباشر، بل عبر تشكيل الوعي الجماعي وتوجيه الإدراك العام.
هذه الدينامية لا يمكن فصلها عن العلاقة البنيوية بين السلطة والمجتمع، حيث تهيمن البنية السلطوية (Structure autoritaire) على فضاء عمومي منكمش (Espace public rétracté)، وتعيد إنتاج بنية اجتماعية خاضعة (Structure sociale soumise) عبر أدوات قانونية، أمنية، وإعلامية. المواطن المغربي، بفعل تراكمات تاريخية من القمع والتهميش، ينتج ذاتا خائفة، منعزلة، تفتقر إلى الثقة في المؤسسات، وتفضل الانسحاب على المواجهة. هذه الحالة تفسر ضعف الحشد الجماهيري رغم وحدة المطالب، وتعيد إنتاج ما يعرف بثقافة الخضوع (Culture de la soumission)، وهي ثقافة لا تبنى فقط على الخوف، بل على الإحساس بعدم الجدوى السياسية للفعل الجماعي.
غياب النقابات والأحزاب عن المشهد لا يعد تفصيلا، بل هو مؤشر على أزمة الوساطة السياسية (Crise de la médiation politique). هذه المؤسسات، التي كانت تؤطر الفعل الجماعي، أصبحت إما مدجنة أو فاقدة للشرعية، ما خلق فراغا تنظيميا استغلته الحركات الجديدة، مثل GENZ212، لتتحرك خارج الأطر التقليدية، معتمدة على شبكات التواصل الاجتماعي، لكنها تفتقر إلى البنية الصلبة (Structure organisationnelle) التي تسمح لها بالاستمرارية والتوسع. هذا التحول يعكس ما يسميه آلان تورين بـ”الفاعل الاجتماعي الجديد” (Nouvel acteur social)، الذي يتحرك خارج المؤسسات، ويعيد تعريف السياسة من الهامش.
الإعلام الرسمي، من جهته، لا يكتفي بالتعتيم، بل يمارس ما يمكن اعتباره طمسا رمزيا (Effacement symbolique) للحركات الاحتجاجية، عبر تجاهلها أو تشويهها، مما يساهم في إعادة إنتاج الفرد المعزول (Individu isolé)، الذي لا يرى نفسه جزءا من جماعة قادرة على التغيير. هذه الرقابة الرمزية (Censure symbolique) تضعف إمكانيات التضامن، وتعيد تشكيل الرأي العام وفق منطق السلطة، وتحول المجال العمومي إلى فضاء مراقب، حيث يقمع التعبير قبل أن يولد.
يمكن اعتبار هذه الحركات طقوسا مقاومة (Rituels de résistance)، تمارس في الهامش، لكنها تعيد تشكيل المركز. إنها تعبيرات عن هوية احتجاجية جديدة (Nouvelle identité contestataire)، تتجاوز المؤسسات، وتعيد تعريف السياسة كمجال للصراع الرمزي والمادي (Champ de lutte symbolique et matérielle). هذه الحركات، رغم هشاشتها التنظيمية، تنتج وعيا جديدا (Nouvelle conscience sociale)، يعيد طرح الأسئلة الكبرى حول العدالة، الكرامة، والمساواة، ويعيد بناء الذات الجماعية في مواجهة منطق التهميش.
ما يميز هذه اللحظة التاريخية هو تزامن الاحتجاجات في سياق سياسي يتسم بانكماش المجال العمومي وتآكل الوساطة المؤسساتية، مما يكشف عن تحولات عميقة في بنية الفعل الجماعي. لم يعد الاحتجاج مؤطرا من قبل الفاعلين التقليديين، بل أصبح تعبيرا عن فاعلية شبابية جديدة (Nouvelle agentivité juvénile)، تتجاوز الأشكال الكلاسيكية للتنظيم، لكنها تواجه تحديات بنيوية أبرزها غياب الاستمرارية، ضعف التنسيق، والتعرض المستمر للقمع. هذه الفاعلية، وإن كانت مشتتة، تعيد تشكيل المجال السياسي من الأسفل، وتعيد طرح سؤال الشرعية من خارج المؤسسات.
ومع ذلك، فإن غياب الجامعة والمثقفين عن تأطير هذه الحركات يطرح إشكالا آخر يتعلق بما يمكن تسميته بـ”انسحاب العقل النقدي” (Retrait de la pensée critique) من المجال العمومي. فالمؤسسات الأكاديمية، التي يفترض أن تكون فضاء لإنتاج المعرفة النقدية، أصبحت في كثير من الحالات إما محايدة أو خاضعة لمنطق الضبط، مما أضعف قدرتها على مرافقة التحولات الاجتماعية. هذا الغياب لا يفسر فقط بالرقابة، بل أيضا بتراجع دور المثقف العضوي (Intellectuel organique) كما حدده غرامشي، أي المثقف المنخرط في الصراع الاجتماعي، لا المنعزل في برج نظري.
أما الخطاب الرسمي، فإنه يعيد إنتاج نفسه عبر لغة تقنية، قانونية، ومجردة، تفرغ المفاهيم من مضمونها، وتعيد تشكيل الإدراك العام وفق منطق التبرير لا التفسير. هذا الخطاب، الذي يمارس ما يمكن تسميته بـ”الاستعارة السلطوية” (Métaphore autoritaire)، يحول المطالب الاجتماعية إلى تهديدات أمنية، ويعيد تعريف الاحتجاج كفوضى، لا كفعل ديمقراطي.
في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة التفكير في دور اللغة، في قدرتها على إنتاج المعنى أو طمسه، وفي دور المثقفين في استعادة السياسة كفضاء للنقاش، لا كأداة للضبط. فالمعركة ليست فقط ميدانية، بل رمزية، لغوية، ومعرفية، وهي معركة لا تخاض فقط في الشارع، بل أيضا في النص، في الخطاب، وفي الوعي.
في المحصلة، فإن الدولة، في لحظة الأزمة، لا تواجه المطالب بالحوار، بل بالمنع والردع. هذا الخيار، وإن بدا ناجعا على المدى القصير، فإنه يعمق الأزمة، ويراكم الغضب، ويمهد لانفجارات مستقبلية قد تكون أكثر جذرية. فالمجتمع، وإن بدا صامتا، فإنه يراكم الوعي، ويعيد تشكيل ذاته، في انتظار لحظة تاريخية تعيد التوازن بين السلطة والمجتمع، وتعيد تعريف السياسة كفعل جماعي تحرري، لا كأداة للضبط والسيطرة