آخر الأخبار

شهادة أدبية لعبد الجليل باحدو في حق النقيب ابراهيم صادوق

,,في كتابه ” كنت اتحاديا ” وهي عبارة عن سيرة ذاتية صدرت في اكتوبر 2025، خص الاستاذ عبد الجليل باحدو الاستاذ النقيب ابراهيم صادوق بشهادة أدبية رصينة جاء فيها :

الصديق إبراهيم صادوق

كنا في التضامن الجامعي المغربي قد نظمنا مع فيدرالية المستقلين للتضامن الفرنسية، في أبريل 2014 بمراكش ندوة من أجل وسط مدرسي بدون عنف ، ضمن البرنامج حفل عشاء لأعضاء الوفد الفرنسي، اتصلت بالصديق النقيب إبراهيم صادوق، وهو الخبير بمقاهي المدينة ومطاعمها وفنادقها ، ليدلني على مطعم أو دار للضيافة :

. سألني كم عدد الضيوف

. قلت إننا أربعة وعشرون.

. فقط

. ايتنا بهم إلى البيت

. العدد كبير يا أستاذ

. بلهجته الصارمة والآمرة قال: جيبهم والصلاة على النبي.

في بيته الجميل، بحديقة مترامية الأطراف يتوسطها مسبح والمبني على الطراز المغربي الأصيل، استقبل ضيوفنا بالحفاوة وأدبه الجم غير المتصنع، كانت الأطباق الفاخرة من كل ما يمكن تصوره من المطبخ المغربي جاهزة معروضة في البوفي، طاقم من الندل والسقاة بلباس العمل يقومون في الحديقة بسقي العطشى بالمياه المعدنية والأنبذة والخمور التي انكب الفرنسيون كعادتهم، على تقدير مستواها من خلال صفاء لونها وطيب رائحتها قبل تذوقها وتبادل نظرات تأكيد الحكم على أنها زنبق خندريس * (صافية قديمة).

لم نكن الضيوف الوحيدين الذين ضمهم البيت، فهناك محامون وقضاة وأدباء ومثقفون وجوق موسيقي يشنف الاسماع بأجمل الألحان أصيب أصدقاؤنا الفرنسيون بالدهشة والانبهار، كيف المحامي الجمعية أن يتطوع ليستقبل في بيته كل هذا العدد من الضيوف، وهم الذين يقال عنهم بأنهم أبخل الشعوب، ففي أحسن الأحوال يستقبلون ضيفهم في المطعم، أما إذا حل في بيتهم وقت الأكل فيعرضون عليه مشروبا أو قراءة كتاب إلى أن يفرغوا من الوجبة.

تعرفت على الأستاذ إبراهيم صادوق منذ أكثر من نصف قرن، كان وهو ابن قلعة السراغنة خريج معهد ابن يوسف قد اختار في بداية حياته مهنة التعليم، فانتقل من تحناوت إلى الدار البيضاء، لا أذكر الظروف التي تعارفنا فيها ، فهو بحكم واقعه المادي آنذاك كان، فقط، يتطلع من بعيد إلى حانات “مدام غبران” و”القصر البراق” و”. و “لكونكورد” و”أوطوميك” ولا يقتحمها، ومن المحتمل أن يكون اللقاء قد تم في المقهى الخضراء… كان إبراهيم، مثل أفراد جيله يحمل الكثير من الأفكار التقدمية والآمال والطموحات متحمسا لشعارات الاشتراكية والديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، وبكل ما تحمله من أوهام وتمثلات، بل إنه انتسب إلى خلية في حزب الاتحاد يشرف على تأطيرها المرحوم محمد المرجاني مفتش التعليم الفرنسي ظلت تتجادبه أفكار ومبادئ ا. و. ق. ش ومقالات وتحليلات جريدة المحرر الأسبوعية التي كان يساهم في تصحيح مقالاتها ويتطوع لبيع أعدادها بيعا نضاليا في أزقة وشوارع وساحات الدار البيضاء ويحكى بأنهم كانوا يتلقون أحيانا، حتى مبلغ خمسين درهما عن العدد الذي لم يكن ثمنه يتجاوز أربعين (40) سنتيما  .

مع كل ذلك الإيمان بمبادئ الاتحاد وخطه السياسي سرعان ما يخلخل صديقه وابن بلدته الطالب في كلية العلوم في الرباط وأحد أقطاب 23 مارس، عبد السلام المودن ، تلك الأفكار والقناعات بوصف الاتحاد حزبا إصلاحيا لا رؤية استراتيجية له مع غياب الوضوح الأيديولوجي فيبتعد صادوق عن الاتحاد لينكب على دراسة ما توفر من ترجمات الأدبيات الماركسية اللينينية والفكر التنويري العقلاني، وهذا ما جعل الرجل ذا اهتمامات متداخلة في الحقول المجتمعية والثقافية والسياسية، حاضرا، وباستمرار، في العديد من الواجهات والجبهات.

بعد ثماني سنوات في التعليم انتقل إلى المحاماة سنة 1976 ، قضى جزءا من فترة التدريب في الدار البيضاء قبل أن ينتقل إلى مراكش التي أدى فيها القسم ، ظل صادوق وفيا لأخلاقه وخصاله، من تواضع وبساطة وكرم، فحتى وهو يسكن شقة صغيرة كانت تتسع لأفواج المحامين والمثقفين والصحفيين ونماذج بشرية استثنائية من حرافيش مراكش كنت كلما حللت بمراكش اتصل به هاتفيا ، حتى قبل الهاتف المحمول، لأخبر السلطات المحلية بدخولي إلى مجالها الترابي !

صادوق قطب جذاب يفرض احترامه أينما حل وارتحل، حريص على أناقته وسيجار رهافانا الفاخر الذي ظل متشبتا بتدخينه حتى مع نصائح أطباء القلب.

في أي مقهى جلس، بموعد أو بدونه، تتسلل حوله حلقة بدون جدول أعمال، تثار فيها مواضيع السياسة الراهنة وقضايا العدالة والأنشطة الثقافية والنميمة الطريفة والمباحة، يصغي باهتمام للتحليل السياسي الجاد أو العرض الأدبي المتميز أو الأخبار عن إصدارات جديدة …. يثور ويقمع المتطفلين على الحديث في ما لا يعرفون ومع ذلك فإنه لم يكن متعصبا لعقيدة أو مذهب ولكنه عندما يرغب في تأجيج النقاش يثير الحديث عن الإسلام وفضائله وقيمه التي لو اتبعت لضمنت للشعوب التقدم والرقي والعدلة الاجتماعية … اة

لا أحد يضع يده في جيبه لأداء المشروب مهما كان عدد أفراد الحلقة ومستواهم المادي، في جلساته عرفني على العديد من رجالات مراكش في المحاماة والقضاء والمثقفين، لا أزال أذكر من بينهم الأستاذ أحمد الخلاصة صديق شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم.

تنتهي الجلسة في مقهى الحي الشتوي، يتصل الأستاذ بالبيت، يأمر بإعداد الغذاء على عجل لثمانية أو حتى عشرة أشخاص، هكذا اعتاد أن يدعو أصدقاءه بمناسبة أو بدونها إلى مائدته لمشاركته الغذاء أو العشاء.

في غذاء حضره رئيس محكمة، وكيل الملك ، قضاة، محامون، تعرفت على الأستاذ الفاضل عبد العزيز الواقدي الذي أصبح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بالرباط، كان وكيل الملك على عجل بسبب التزام مهني، قام مباشرة بعد الغذاء، تفقد هاتفه ولم يعثر عليه إلا بعد البحث والتفتيش بين المخدات عبر الأستاذ صادوق عن استغرابه لكون الهاتف لم يكن سوى “نوكيا” البسيط والذي لا تتجاوز قيمته مائتي درهم، قال له الوكيل هذا أحسن هاتف، فلا أحد يمكن أن يحدد موقعك ولا التنصت على محادثاتك عن بعد أو قرب، ولا قرصنة معلوماتك أو أخذ صورة لك ومع ذلك فإنه يقوم بالمهمة الأساسية في توفير الاتصال، إنهم رجال القانون وليسوا أتباع الموضة والمباهاة !

ظل نزوع أدبي مستحكما في صادوق أدى به إلى إنشاء أول مقهى أدبي في مراكش، وهكذا احتضنت مقهى “فردي”، التي أصبحت ناديا لاتحاد كتاب المغرب العديد من اللقاءات الثقافية التي التأمت فيها جمهرة متنوعة من مثقفي ومناضلي مراكش عبر أكثر من ست سنوات خلال العشرية الأولى من الألفية الثالثة. يمتلك الأستاذ إبراهيم ذاكرة متقدة متوهجة وقدرة على استذكار العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية والقضائية، كما أن عالمه يضم شخصيات عجائبية من أمثال مولاي لكبير الذي يعرض عليه شراء الكتب التراثية ويصفها بـ الذهب المشحر ” ولعروسي بلطجي ومؤسس إحدى جمعيات المجتمع المدني كثيرا ما دافع عنه أمام المحاكم…. 11 شخصيات عجيبة شكلت قسما من ذاكرة مدينة مراكش ولطالما كنت أحض الصديق النقيب ابراهيم على كتابة مذكراته وصياغة برتريهات لشخصياته اقتداء بما فعله نجيب محفوظ في “المرايا” من صور فنية للعديد من الشخصيات التي قد يكون تعرف عليها في مراحل حياته.