في زمن العقل الرقمي، فتحت الشاشات نوافذ للجن والسحر والدجل، لا علم ولا منطق، بل “مؤثرون” يبيعون الوهم بثقة وابتسامة. تعاويذ، بخورات، وخرائط دفائن تُرسم على الهواء، بينما الناس تشاهد، تنبهر، وتصدق. المشعوذ صار نجما، والسحر أصبح ترندا، والضحية عقل يبحث عن خلاص في مستنقع الكذب.
الشعوذة لم تعد حكاية خرافية تُروى في القرى، بل أصبحت صناعة مزدهرة تغزو المدن والهواتف الذكية، من فتيات صغيرات يقصدن قارئات الفنجان، إلى رجال في أرذل العمر يتوسلون وصفة لاسترجاع الحظ، الجميع يطرقون أبواب الغيب وهم يعلمون أن وراءها كذبا مقننا ومكرا يُسوَّق في قنينات بخور وتمائم.
ما يزيد قبح هذه الظاهرة أنها وجدت في “السوشيال ميديا” أرضا خصبة لتتسع كالنار في الهشيم، صفحات تتفاخر بقدرتها على استخراج السحر المدفون، أشخاص يبيعون خواتم يسمونها زورا “خواتم سليمان”، وآخرون يوزعون وصفات بالأعشاب قد تودي بحياة الناس، وكل ذلك يُعرض بثقة مطلقة وكأننا نشاهد مقاطع دعائية لفيلم خيالي.
أما الأخطر فهم أولئك الذين يفسرون الأحلام كما لو أنهم يملكون مفاتيح الغيب، يفتون في المصائر، يربكون العقول، يبيعون الوهم بنبرة من يعرف كل شيء، وهم في الحقيقة يستغلون الضعف البشري، ويقتاتون على الخوف والألم والحاجة.
وأغلب هؤلاء يحملون اسما واحدا: “الشريف” أو “الشريفة”، وبينهم وبين هذا الاسم من الخير والبركة ما يُشبه المسافة بين السماء والأرض، فهم لا شرف لهم، ولا نسب، ولا حتى رحمة بمن يطرق بابهم من البسطاء.
والغريب أن أغلب المغاربة يرفضون هذه الظواهر، لكنهم أنفسهم الباحثون عنها في الخفاء، لأنها طابو اجتماعي وسكيزوفرينيا جماعية، بين ما يُقال علنا وما يُفعل سرا، بين رفض الظاهرة نظريا، والغرق فيها عمليا، ليبقى المجتمع بين شقي الرحى: عقل يقرأ آيات التحصين صباحا، وقلب يركض خلف عراف في المساء.
هؤلاء الدجالون لا يُحارَبون كما يجب، لأن الناس تخافهم، تهاب أعمالهم المزعومة، تخشى “الرد” و”الانتقام الروحي”، فتصمت. لكن ديننا واضح، وقد أمرنا بالاستعاذة من شياطين الإنس والجن، والقرآن الكريم يقول: “إن عبادي ليس لك عليهم سلطان”، فهل نصدق دجالا يدعي التحكم في الأقدار ونحن نملك ربا بيده مفاتيح كل شيء؟
الحل ليس في الهروب نحو المجهول، بل في الاقتراب من الله، في المواظبة على الصلاة، في الذكر، في الدعاء، في بناء يقين داخلي أن لا نافع ولا ضار إلا هو. لا أحد سيحل مشاكلك ببخور أو تعويذة، لأن من صدقهم فقد صدق الشيطان، ومن خافهم نسي أن الله هو الحافظ.
كفى عبثا بالعقول، كفى صناعة للأوهام، كفى ترويجا لسوق الجن المفتوح.