بقلم ذ.عبد اللطيف رقيق
كانت المدينة تبدو كلوحة
معلّقة على كتف الزمن؛ بيوت حجرية بسطوحٍ حمراء، طرق ضيقة تتعرج بين التاريخ والصمت، ومقاهٍ تُطلّ على وادٍ عميق يلتفّ حوله الصنوبر والضباب كوشاحٍ قديم يرفض السقوط.
في هذه المدينة، لم تكن الحقائق تُعلن… بل كانت تتسرّب.
والفضائح لم تكن تُصرّح… بل تُهمس.
وهناك، عاش يونس.
كان شابًا أحبّ أن يراه الناس في الصفوف الأمامية للمسيرات والندوات. كان خطابه أشبه بخطب تُكتب لكتب التاريخ: صاخب، نزيه في مظهره، مليء بالشعارات التي تمنح الناس ما يكفي من الأمل ليبقوا واقفين رغم كل الهزائم. كان يرفع صوته قائلا:
“الحرية ليست مُساومة.”
“الظلم لا يُفاوض.”
“الاتحاد مدرسة لا يعرفها الخونة.”
“اتحادي اتحادي… نحن ثورة على الأعادي.”
وكان الناس يصدقونه.
لم يكن مجرد مناضل حزبي؛ بل كان وجهًا إعلاميًا، رمزًا شبابيًا، وصوتًا يصفق له الكثيرون.
كان يجلس تحت صور شهداء الحركة الوطنية في مقر الحزب القديم، ويقول بثقة لمن حوله:
“هؤلاء ماتوا لنعيش بشرف… نحن الورثة، لا نخون العهد.”
والحاضرون نصف يسمعون… ونصف يُصفّقون.
لكن في السياسة — كما في الحياة — السقوط لا يأتي بضربة واحدة… بل يبدأ بشق صغير لا يُرى.
بعيدًا عن الأضواء والمقرات واللافتات، كان يعيش حميد.
صحفي لم يحب الانتماء، لا يحضر المؤتمرات ولا يلتقط الصور مع المسؤولين. يُفضّل الحقيقة على التحالفات، والمهنية على الانحياز. كان يحمل كاميرته كما يحمل الجندي بندقيته؛ لا ليصنع حربًا… بل ليمنع الكذب من الانتصار.
كان يقول:
“الصحافي لا يحاكم الأشخاص… بل الأفعال.”
ولذلك كان مكروهًا عند البعض… ومحترمًا عند الجميع.
في إحدى الأمسيات، اجتمعت لجنة أخلاقيات المهنة والقضايا التأديبية للنظر في ملف شكاية تقدم بها شخص نافذ يدعى عبد اللطيف ضد حميد. ترأس الاجتماع محمد، رجل هادئ متحفظ، تحكمه البيروقراطية أكثر مما تحكمه المبادئ. وإلى جانبه جلست فاطمة الزهراء، نائبة الرئيس، امرأة تؤمن أن احترام الشكل القانوني أهم من تغليب العدالة. وبين الحاضرين كان يونس — ليس كضيف — بل كصوت نافذ اعتاد أن يُسمع أكثر مما يستمع.
كان من المفروض أن يكون النقاش مهنيًا بضوابطه واحتراماته، غير أن الجلسة سرعان ما انزلقت إلى مستوى آخر: كلمات نابية وعبارات جارحة بحق هيئة دفاع حميد، تهكم على المحامين وعلى مناصريه، وأسلوب أقرب إلى جلسات المقاهي منه إلى مؤسسة يفترض أنها تدافع عن شرف المهنة.
ولم يكن ذلك أخطر ما حدث.
فقد ظهر صوت يونس في التسجيل بوضوح، وهو يقول بنبرة الواثق من نفوذه لا من حجته:
“لا داعي للتعقيد… سأرسل للرئيس المنتدب un petit mot.
الأمور ستحل كما يجب.”
ثم ضحكة قصيرة فيها ما يكفي لقتل آخر ذرة ثقة.
حين نُشر التسجيل، لم يكن حميد يبحث عن حرب، لكنه حين استمع إليه، أدرك أن السكوت هنا ليس حكمة… بل تواطؤ. خرج في بث مباشر وقال:
“الخطر ليس في المؤسسات التي تُخطئ… بل في الأشخاص الذين يحولون الأخطاء إلى عرف، والنفوذ إلى قانون.”
وانفجرت القضية.
أكثر من 200 صحفي وقعوا عريضة تضامن معه.
الإعلام ناقش، المواطنين غضبوا، والمدينة التي كانت تنام على الهدوء… أصبحت تستيقظ على الأسئلة.
في تلك الليالي، كان يونس يجلس أمام المرآة طويلاً. حاول أن يرى فيها المناضل الذي كانه، لكن ما ظهر كان شخصًا آخر: رجل أدمن التصفيق حتى ظن أنه معيار الأخلاق، وظن أن النفوذ امتداد طبيعي لماضيه، لا اختبار له.
مرّت أيام قليلة، وانقسم المشهد: البعض دافع عن يونس، لا حبًا فيه، بل خوفًا من اهتزاز الطاولة؛ البعض التزم الصمت لأن قرب الحقيقة يُربكهم؛ والبعض أعلن موقفه بوضوح: لا أحد فوق المحاسبة.
دخلت الصحافة الدولية على الخط، بدأت الأسئلة تُرفع في الندوات، وبدأت أسماء داخل المؤسسة تطالب بفتح تحقيق داخلي مستقل. محمد رئيس اللجنة استشعر الضغط فأصبح يتحدث بنبرة أقل ثقة، أما فاطمة الزهراء فانتقلت من موقع المدافع عن الإجراءات الشكلية إلى موقف مختلف: صارت تقول همسًا إن القانون ليس ورقة… بل روح.
يونس حاول الحفاظ على هدوئه، لكنه وجد نفسه معزولًا تدريجيًا. لم يعد يظهر في الفعاليات، لم تعد له نفس الهالة، وأصبح حضوره يثير الحرج بدل الاحترام. كلما مرّ في الشارع، بدا كظل رجل… وليس رجلًا.
أما حميد، فقد قيل له مرارًا:
“لقد انتصرت.”
فكان يجيب بابتسامة قصيرة:
“لم أنتصر. ما زلنا فقط في بداية معركة الوعي.”
وفي أحد الصباحات الباردة، وبينما كان الضباب يغطي الطريق ككتابة بيضاء لم تُترجم بعد، خرج يونس من البيت. في الخارج، كان يقف رجل مسن من قدماء الحزب، ينظر إليه بنظرة لا تحمل كراهية… بل ألمًا، ثم قال بصوت مختنق:
“كنّا نظنّك واحدًا منا… لم نكن نعلم أننا صفقنا لقناع.”
لم يرد يونس.
ركب سيارته، لكن الطريق بدا أطول من أي وقت مضى.
في الجهة المقابلة من المدينة، جلس حميد أمام مكتبه، وكتب آخر سطر في هذه القضية:
“السقوط لا يبدأ بالخيانة…
بل حين نقبل أن نصمت لأن الصدق يؤذينا.”
ثم أغلق الحاسوب، وترك الصفحة التي تليه بيضاء.
ليس لأن الحكاية انتهت…
بل لأن البلد — دائمًا — لديه قصة أخرى تنتظر من يكشفها.
