لم تمرّ اليومان الماضيان دون أن يثيرا فينا الغثيان، مما نُشر على منصات التواصل الاجتماعي من مهازل، لم يكن لها أن تُكتب لولا هذا الزمن الرديء، الذي صار فيه النكرات يتطاولون على المقامات الرفيعة، والمهرجون يلبسون ثوب الصحافة، والمتملقون يلهثون خلف موائد الولائم ليقتاتوا الفتات، ثم ينصّبون أنفسهم ناطقين باسم الولاء والوفاء.
أكثر ما يثير الاشمئزاز أن يخرج شخص لا صفة له ولا كفاءة تُذكر، يمثل موقعًا إلكترونيًا لا نعلم له تاريخًا ولا مصداقية، وينشر “رسالته” إلى جلالة الملك، يستعطفه فيها للعفو عن أحد الولاة، واصفًا إياه بـ”المخلص، الصادق، الخدوم، المتفاني”… وكأنّه الناطق الرسمي باسم شعب مراكش، أو ممثل عن هيئات المجتمع، أو حتى صحفي مشهود له بالكلمة والضمير.
أي جرأة وقلة حياء هذه؟
أن يتوجه فردٌ مجهول، بصيغة “أنا” المتضخمة، إلى قمة هرم السلطة في البلاد، متجاوزًا كل أعراف المخاطبات الرسمية، متجاهلًا السلم الإداري، والديوان الملكي، والمؤسسات المخصصة للتماسات وطلبات العفو، غير آبه بما تقتضيه هيبة الدولة ومكانة العرش.
والمضحك المبكي أن هذا الشخص، الذي لا يتوانى عن التسكع في المناسبات الولائية، والتزلف في الكواليس، والركض خلف الصور واللقطات، يصف نفسه بـ«خديم الأعتاب الشريفة»، في ادعاءٍ فجٍّ لا يسنده ظهير، ولا يزكيه قسم أُدّي في حضرة السلطان، ولا تؤهله أمانة أو مسؤولية في الأرض أو على رقاب العباد.
هو الذي يقتات من فتات الموائد، ويتمسح بأقدام المسؤولين، ويضحي في أعياد المؤمنين من أكباش السلطة، ثم يتطاول بكلام لا يليق، وينطق باسم الولاء في حضرة الملوك، وكأنّ الولاء صار بطاقةً تُمنح بالمجاملة، لا مقامًا يُنال بالطهر والنزاهة والكفاءة والوفاء الحقيقي.
لكنّ الطامة الكبرى، أن هذا الشخص ليس الوحيد في هذا المسلسل البائس؛ فقد توالت خلال الأيام الأخيرة رسائل استعطاف مماثلة من عدد كبير من المتملقين والمتسلقين، ومن جمعويين وجمعيات لا تُعرف لهم مبادرة أو مشروع في خدمة المجتمع المدني، سوى الظهور في صور مع المسؤولين، والتفنن في عبارات التزلف والتملق، وكأنهم وجدوا في هذا الظرف الاستثنائي فرصة سانحة لإثبات “ولاء” رخيص، مبني على المصالح لا المبادئ.
وفي الوقت الذي يُراسل فيه وجهاء البلاد وأعيانها جلالة الملك عبر المسالك الدستورية والرسمية، بكل توقير ولباقة واحترام، نجد من يرسل رسالة بـ”لغة السوق”، يخاطب بها رمز الأمة كما لو أنه يخاطب أحد أصدقائه في مجموعة “واتساب”.
لقد تحوّلت هذه الرسائل إلى سوق نخاسة سياسية، حيث يُعرض الولاء مقابل الأضحية، وتُشترى الأقلام بالصورة، والتهنئة، والمواعد الرسمية. وهكذا يتطاول صغار النفوس، ويقفزون على القيم، ويظنون أنفسهم حراس الهيبة وحماة القرار، فقط لأنهم التقطوا صورة قرب الوالي، أو نُشر لهم “بلاغ” في مجموعة مغلقة.
نقولها بمرارة: مقام الملك محفوظ، ومكانته مصونة، ولا يُخاطب بهذه الخفة. ومن أراد أن يُراسل العرش، فعليه أن يُجيد لغة المؤسسات، ويعلم أن الشؤون العليا لا تُدار برسائل “فيسبوك”، ولا بتدوينات المجاملة.
مراكش ليست ساحةً لمن يلهثون وراء الريع ويتوسلون بأكباش الأعياد، والبلاد ليست غنيمةً لمن يبيعون الكلمة في مواسم النفاق.
لقد سقطت هيبتهم، لا برسائلهم فقط، بل حين جعلوا من الولاء سلعة، ومن الكرامة مهنة، ومن المواقع الإلكترونية مطيةً للوصول إلى قصعة اللحم.