إدريس الأندلسي
اختفت الصحافة التي عرفناها ، و ساد حامل رسالة، بأجر إلى من يهمه أمر يجدي ممارسة مهنة من لا مهنة له. قال شاب أو شابة أنه بالإمكان دخول منتديات عبر صورة و قناع. كلما تم تحويل مشكل عائلي إلى فيديو، كسب البعض قوت يومه. أصبح واقعنا يعج بممتهني تصوير الفقر و التعليق عليه بلغة تحمل تارة صبغة دينية، و تحاول، تارة أخرى إلى تحويله إلى ” منتوج ” يذر دخلا ماليا على رئيس جوقة أصبح مردودها مغريا، و مفعولها يعد بمتابعات مليونية. و ألف عتاب على من حولوا الصحافة إلى مستنقع للزبالة.
لا يمكن أن يقف أمام العازفين الذي يؤدون مقاطع غير موسيقية، و بإيقاعات تتغير حسب درجات الحرارة الإجتماعية و السياسية إلا من يمتلك القدرة على تطويع الكواليس. تخف، هذه الايقاعات لمدة , ثم تعود إلى الارتفاع بفعل فاعل. يستمر أعضاء الاجواق في العزف حسب إشارات خفية و متغيرة. يأتي الأمر و الأمر المضاد، و يحاول عازف الإيقاع رفعه، لكن غضب مسير الجوقة، يدفعه إلى خفض تأثيره على الآلات الأخرى و خصوصا على الناي الحزين. فيتحول الجمهور من حالة الحماس إلى حالة من الهدوء و تذرف العيون دمعات ملؤها التأمل و الهدوء. يطرح سؤال بسيط يهم أسباب هجرة بعض أصحاب ” القاع و الباع” إلى فضاء التأثير على الذوق العالم، و الفكر العالم، و الرأي العام. هل لامسوا السقف، فتأكد لهم أن استباحة شؤون الوطن أصبحت أبوابه ” بدون بواب”. لقد اخطؤوا العنوان و لم يقرؤوا، بما فيه الكفاية، كنه تاريخ الوطن. لهذا الكائن ، الذي يتجاوز الأزمان ، قواعد لا يعرفها إلا الراسخون في العلم. كلف السلطان الحسن الأول المؤرخ الناصري بإبداء رأي، فكتب الاستقصا في مجلدات لا زالت تنير بعض المداخل لعلم التاريخ. و تفرغ المؤرخ ابن زيدان ” للإتحاف ” بكثير من المسؤولية، و كذلك فعل العلامة المختار السوسي في ” المعسول” في البحث و في التأطير التربوي . و حاول العلامة الكتاني في ” زهرة الاس ” أن يؤرخ لعاصمة كانت بوصلة العلماء تستقصي سحرها. و قبلهم كتب النجم الساطع ابن رشد في قرطبة و مراكش كثيرا من النفائس. و لم يتوان الأستاذ و العالم عبد ألله العروي عن إنارة الطريق لفهم تاريخ المغرب. لدينا كنوز تحتاج إلى رجال و نساء دولة في حالة صحوة فكرية.
مسيرو الاجواق في مجتمعنا ليسوا موسيقيين ، و أغلبهم يكره أثر الموسيقى على المزاج العام. هؤلاء لا يعتلون المنصات على المسارح. يفضلون التسيير من الكواليس، و يتبعهم العازفون على النعرات، و المتسللون من وراء الكلمات، و كاتبو السيناريوهات عند الطلب. ثم يستعرض قائد الجوقة ما لدية من أصوات ليوجهها شرقا و غربا ، و في كافة الاتجاهات. فيوجه موال البوح بالمحبة لمن يرودون أن يرشوه بماء الورد، بعد أن رموا عليه كل القاذورات حتى ماض قريب.
وجب طرح سؤال حقيقة إستقلال رؤساء الاجواق التي تسيطر على اليوتوب، و غيره من الوسائط. يقول بعض العارفين بالعزف على الأوتار، أن الزمن الصعب سهل مهمة فرض الإيقاع، و طريقة نطق الكلام، و إبداع توجيه التهم الثقيلة لأداء ألحان بطريقة لا تروق لمن يزن أثر الفعل الإبداعي على الجماهير العريضة. كثرت الاجواق، و انفتحت أمامها بعض الإمكانيات المالية، لتقول في كلمتها ذات الشكل المعتبر موافقا لقيم الصراحة، و الصدق، و قول الحقيقة. يقف العازف و ضابط الإيقاع في زاوية تمكنهما من التشاور مع رئيس الجوق، تتحول الآلات إلى خطاب مدح لهذا، و نقد حاد لذاك، و” تقديم النصح” لمسؤول، و لتهديد لجهة حكومية أو حزبية يكشف في موعد لاحق.
كثرت ” المنابر” و اختلطت الحبال في الحناجر، و أصبح الوقوف خلف الآلة يحول العازف إلى صياد يتقن التسديد في إتجاه الأهداف. و أصبح الجمهور، لفرط حضور هذه المنابر، يعرف بحدسه من هم مسيرو الاجواق، و طبيعة أسباب تنافسهم، و ما يجنونه من ثمار يخفونها خوفا من غد قد لا يتقن فيه العازفون أداء كل الجمل غير الموسيقية. رحم الله من لم يسخروا أقلامهم، و أصواتهم لخدمة مقابل كرم دنيوي بسيط زائل. إنه زمن ” الحياحة” الذين لا يأخذون وقتا للراحة و التفكير، و كتابة سطور قد تفيد بناء حاضرنا، و مستقبل أبناءنا. اتركوا الطريق للفكر لكي يرقى، و اعلموا أن التملق يهين، في الأول و الآخر، كل من يسلك نهجه. و رغم ظهور تحت الأضواء، فالقبول بالإهانة مدخل إلى عالم الظل و الظلام. و ينسى كثير من الراقصين، و الذين يتخيلون أنهم ذوو قدرة على فعل في مجتمعهم من خلال كاميرا و ميكروفون، أن الحفاظ على الأوطان، و السعي إلى تحصينها تحتاج إلى العلماء، و المهندسين، و المؤرخين و الفنانين، و ليس إلى سماسرة الفضاء الأزرق الذين انضم أغلبهم، إلى ممارسين لحماية المفسدين بمقابل، و إلى متفننين في الحصول على ” الاكراميات ” و تطوير آليات التسول التي يلونونها حسب هوياتهم الحقيقية.
