سـعـد سـرحـان
في حدائق البطل الأسطوري أكاديموس، غير بعيد عن أثينا، أنشأ أفلاطون أكاديميته الشهيرة، الأكاديمية التي تحمل اسمه.تُحسب لها، للأكاديمية تلك، أربعُ فضائل: الأولى هي أنّها على الأرجح أوّل مؤسّسة للتعليم العالي في العالم الغربي، إن لم تكن كذلك في العالم أجمع. والثانية هي أن أرسطو دَرَس بها لمدّة تناهز العشرين عامًا. والثالثة أنّها عمّرت لحوالي تسعة قرون. والرابعة، وهي الأهم في نظري، أنّه كان مكتوبًا على بابها: لا يدخلها من لا يعرف الهندسة.في زمن أفلاطون، لم يكن العالم يعرف لا الكهرباء، ولا الميكانيك، ولا الطاقات المتجدّدة… لذلك، فإنّ الهندسة المقصودة على باب الأكاديمية غير مرتبطة بهذه التخصّصات وخلافها ممّا تقوم عليه الحياة المعاصرة.إنها ببساطة الهندسة التقليديّة كما عرفتها الحضارات القديمة، تلك التي أورثتِ الدّنيا معظمَ عجائبها، قبل ظهور الهندسة الإقليدية كما أسّس لها إقليدس في كتابه الفذ، المعروف بكتاب العناصر، وهو الكتاب الأكثر تأثيرًا في تاريخ الرياضيات، حتى أنه كان من أوائل الكتب التي طبعت بعد اختراع المطبعة. في كتاب العناصر يُشرِّع إقليدس لهندسته بما يعرف بالموضوعات الخمس. وهي، من حيث العدد كما من حيث التنزيل، أشبه بأركان ديانة لا يدخل المعبد من لا يعتنقها.مرّ حتى الآن أكثر من عشرين قرنًا على إقليدس وكتابه العظيم، تغيّر خلالها العالم كثيرًا، وتغيّرت أكثر نظرته إلى نفسه. فأرض إقليدس لم تكن كُرويّة، ولم تكن بها خطوط طولٍ هي عبارة عن أقواس، كلّ واحد منها علامة استفهام بليغة حول مفهوم التوازي الذي تقوم عليه إحدى مسلّمات الهندسة الإقليدية. فعلى مستوى سطح الأرض تلتقي هذه الخطوط جميعًا عند القطبين، ومن أيّ نقطة خارجها لا يمرّ أيّ مستقيم يوازي أحدًا منها.من نظرة الإنسان المتجدّدة إلى المكان تسرّب الشك إلى عقيدة الهندسة التي ظلت راسخة لعدة قرون.فأرض إقليدس غير أرضنا الآن.وأرض إقليدس غير أرض غاليليو.وأرض إقليدس غير أرض ريمان ولوباتشيفسكي، العالِمَيْن اللذين كانا وراء ظهور الهندسات اللاإقليدية.في كتابه “التأسيس الكبير” يورد أبو المعضل أُويس المارديني هذه العبارة المدهشة: القوس محنة الهندسة. ورغم انفتاحها على أكثر من مرمى وعلى غير ما دريئة، فإنها عندي قوس الهندسة التي لن تغلق أبدًا.بمرور العقود والأحقاب، كبرت الهندسة كثيرًا، ولم يعد دورها مقتصرًا على بناء القصور والمعابد والقلاع… بعد أن أصبحت وراء ظهور الطرق السّيّارة والسّكك الحديد وشبكات الكهرباء وقنوات الرّي والملاعب والمطارات وسوى ذلك من أساسيّات الحياة المعاصرة. فلا عجب أن أصبحت الهندسة الآن هي الاسم العلمي للعبقرية في معظم التخصّصات، مثلما لا عجب أن بات تَمَدُّن الأمم يقاس بنسبة المهندسين فيها… فلا يدخل الحضارة من بابها الواسع من لا يعرف أضيق منافذ الهندسة.عبارة أفلاطون التي كانت مكتوبة على مدخل أكاديميته ظلت عابرة للقارات والأزمنة، حتى انطلت على العالم أجمع.أمّا الأكاديمية فأصبحت تطلق على أرقى المؤسّسات العلمية في العالم. ولعلّ أشهرها الآن، بعد أكاديمية أفلاطون، هي أكاديمية ستوكهولم التي تمنح جوائز نوبل كل عام.