جاء خطاب الملك محمد السادس، بمناسبة عيد العرش لسنة 2025، حاملاً رسائل واضحة تمزج بين الهدوء الدبلوماسي والوضوح السياسي، حيث جدد المواقف الثابتة للمغرب حيال قضاياه الوطنية والإقليمية، مؤكدًا تمسكه بخيار الحوار وأهمية الوحدة والتكامل على الصعيدين الداخلي والمغاربي والدولي.
جدد الملك دعوته إلى الجزائر، ممدًّا يده من جديد، في رسالة تؤكد ثبات الموقف المغربي، المنطلق من منطق وحدة الشعوب لا منطق الانقسامات السياسية. لم يكن هذا الخطاب مجرد دعوة عابرة، بل جاء في لحظة إقليمية معقدة، ليُثبت أن المغرب فاعل عقلاني، يدعو إلى التهدئة وتجاوز “الوضع المؤسف”، دون التخلي عن ثوابته أو سيادته.
وفي ظل تعثر مشروع الاتحاد المغاربي، ذكّر الخطاب بأن لا مستقبل لهذا الحلم دون انخراط فعلي وصادق بين المغرب والجزائر، في إشارة واضحة إلى أن غياب التعاون بين الجارتين يبقي المنطقة رهينة الجمود التاريخي.
كانت قضية الصحراء المغربية حاضرة بقوة، ولكن بلغة هادئة تركز على الدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي، لا سيما من دول وازنة كالمملكة المتحدة والبرتغال. وهنا يسوّق الخطاب صورة المغرب كشريك موثوق، اختار الواقعية السياسية وطرح الحلول، بعيدًا عن منطق التصعيد أو المغالبة.
أما على المستوى الداخلي، فقد حمل الخطاب إشارات مهمة إلى جهود الدولة في التصدي للتحديات الاقتصادية والاجتماعية، سواء عبر تعزيز الاستثمارات أو تسريع ورش الحماية الاجتماعية، في ظل ظرفية اقتصادية دولية صعبة. وبرز بشكل واضح في الخطاب ارتفاع صادرات المغرب خلال الفترة الأخيرة، الأمر الذي ساهم في انخفاض نسبة الفقر وتحسين مؤشرات العيش لدى شرائح واسعة من السكان. وقد أشار الملك ضمنيًا إلى أن الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي رهانان مركزيان في المرحلة المقبلة.
وفي سياق تعزيز المسار الديمقراطي، أعلن جلالة الملك عن تعليماته الصريحة لوزير الداخلية قصد التحضير الجيد للانتخابات التشريعية لسنة 2026، مؤكدًا على ضرورة توفير شروط النزاهة والشفافية، وتمكين المواطنين من ممارسة حقهم الانتخابي بكل حرية ومسؤولية. هذه الإشارة الملكية تضع الإعداد للاستحقاقات المقبلة في صلب الأولويات، وتؤكد أن الخيار الديمقراطي ليس مجرد واجهة شكلية، بل توجهٌ استراتيجي يرسّخ الثقة في المؤسسات.
وفي رسالة تحمل بُعدًا ذاتيًا عميقًا، قال جلالة الملك بصراحة: “لن أكون راضياً عن الوضع، مهما بلغ المغرب من تقدم، طالما لم ينعكس إيجابيًا على حياة جميع المغاربة.” وهي جملة تختزل رؤية ملكية واضحة: لا تنمية بدون أثر مباشر على واقع الناس، ولا تقدم يُقاس بالأرقام فقط، بل بكرامة المواطنين ومعيشهم اليومي.
الرسائل الموجّهة للداخل كانت واضحة أيضًا، عبر إشادة واسعة بالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، تجسيدًا لوحدة الجبهة الداخلية، وتأكيدًا على دور مؤسسات الدولة في ضمان الاستقرار. كما أن استحضار الملكين الراحلين، محمد الخامس والحسن الثاني، يعمّق رمزية الاستمرارية والوفاء لتاريخ الكفاح الوطني.
واختُتم الخطاب بآية قرآنية بليغة المعنى: “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”، لتكثف الرسالة: نعم الأمن والغذاء ليستا من المسلّمات، بل من النعم التي تتطلب الحماية والتقدير، خصوصًا في زمن الأزمات المتعددة.
في المحصلة، جاء خطاب العرش هذه السنة موزونًا، عقلانيًا، حازمًا في مضمونه، ولطيفًا في لغته، ليعكس صورة بلد اختار طريق السيادة بالحوار، والتنمية بالاستقرار، وترسيخ المؤسسات عبر انتخابات شفافة، والدفاع عن القضايا العادلة بالشرعية والواقعية، مع التأكيد أن طموح الملك لا حدود له، ما لم يتحقق الأثر الملموس في حياة المواطن المغربي.