حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ
أَوْ حِينَ يُعِيدُ التَّارِيخُ صِرَاعَاتِهِ بِأَقْنِعَةٍ جَدِيدَةٍ
يوسف اغويركات
إلى العزيز الغالي محمد الحبيب طالب، وفاء لفكرةٍ لم تمت.
في لحظات التاريخ الأكثر كثافة، لا يعود الماضي مجرد سرد، بل يتحول إلى مرآةٍ تعكس جوهر المفارقة الإنسانية، كيف تنقلب الفكرة إلى نقيضها حين تُستدعى لحكم الواقع؟
من وحي مقالتك “النبي المسلح أو إنك لا تقرأ نفس الكتاب مرتين” المنشورة بجريدة “أنوال” سنة 1990، يطفو هذا السؤال القاسي الذي لم يجد التاريخ له جوابا حاسما حتى الآن، هل يمكن للفكرة أن تبقى نقية حين تدخل مجال السلطة؟
الفكرة حين تغريها الدولة
كل مشروع تحرّري يحمل في داخله بذرة سلطوية كامنة، الخوف من الفوضى، الحاجة إلى التنظيم والرغبة في الاستمرار. وهكذا، ما إن تخرج الفكرة من محرابها الأخلاقي إلى ميدان السياسة حتى تبدأ في التنازل عن صفائها باسم “الضرورة”، ثم باسم “الاستقرار”، ثم باسم “النجاة”.
من المدينة المنورة إلى موسكو، ومن علي بن أبي طالب إلى ليون تروتسكي، يتكرر المشهد، الفكرة تُختبر، والسلطة تُغري، والصفاء يُعاقَب.
علي وتروتسكي، حراس الروح في زمن الانكسار
على طرفي التاريخ، يقف علي وتروتسكي كحارسين لفكرة رفضت أن تُختزل في سلطة. أراد علي أن تبقى الخلافة أمانة لا مُلكا، وسعى إلى استعادة تلك اللحظة النادرة التي كان فيها الإسلام مشروعا أخلاقيا قبل أن يُصبح نظاما، حين كان الزهد تعبيرا عن الحرية، والصدق مقاومة للتزييف، والعدل وعدا لا يُختزل في السلطة.
وبعد قرون، وقف تروتسكي في وجه آلة الدولة التي ابتلعت الثورة، مؤمنا بأن الإنسان يجب أن يبقى في قلب التاريخ، لا في هامش الحزب.
كلاهما واجه قدرا واحدا، واصطدم بالحتمية ذاتها، أن تُهزم الفكرة حين تُقاس بمنطق البقاء، وأن يُشوه الصفاء حين يخضع لمعادلات السياسة.
ميكيافيلي قال إن النبي المسلح ينتصر، أما الأعزل فيُقتل. لكن ماذا عن النبي الذي لا يحمل سوى سلاح الفكر؟ تروتسكي كان هذا النبي الأعزل، في وجه عالم مسلح بالخوف والشك والطموح الشخصي. لم يكن مجرد قائد ثوري خسر معركة الحكم، بل كان مأساة الفكرة حين تُختبر في محراب السلطة.
رأى الثورة تأكل أبناءها، ورأى الحلم يتحول إلى نظام يطارد الحالمين. عاش بين نقاء النظرية وقسوة السياسة، بين الطهارة الفكرية والدم الذي يُسفَك باسمها. وفي المقابل، كان ستالين “نبي” الحديد، الذي جعل من الثورة آلة صامتة تدوس كل اختلاف.
وعندما طُعن تروتسكي في منفاه، لم يُقتل رجلٌ فقط، بل زمنٌ من النقاء الثوري، وإيمان بأن العدالة يمكن أن تُبنى بالعقل لا بالعنف. ومع ذلك، ظل فكره يتجدد، لأن كل جيل يقرؤه كما لو أنه يفتح الكتاب ذاته للمرة الأولى.
معاوية وستالين، مهندسا البقاء
وكما وقف علي بن أبي طالب حارسا لروح الرسالة في وجه من أراد للسلطة أن تسبق المبدأ، وقف تروتسكي حارسا لروح الثورة في وجه من جعل من الحزب دولة ومن الفكرة جهازا بيروقراطيا. كلاهما حمل مشروعا أخلاقيا في زمن يطلب الحسم لا التأمل، ويُكافَأ الدهاء لا الصفاء.
في المقابل، كان معاوية وستالين وجهين لذكاء البقاء، معاوية فهم أن الحكم يُدار بالعقل لا بالعقيدة، فحول الخلافة إلى مُلكٍ باسم الجماعة. ستالين فهم أن الثورة لا تُحمى إلا بالقوة، فحولها إلى جهاز بوليسي باسم الاشتراكية.
علي وتروتسكي خسرا المعركة، لكنهما ربحا الذاكرة. معاوية وستالين انتصرا في الواقع، لكنهما تركا سؤالا مفتوحا، هل يمكن للفكرة أن تحكم دون أن تخون ذاتها؟ وهل يمكن للعدل أن يُمارس دون أن يُختزل في مؤسسات تخاف من الحرية؟
النهاية، مأساة النبوة حين تُحاصرها السلطة
قُتل علي في المحراب وهو يصلي، واغتيل تروتسكي في منفاه وهو يكتب. كلاهما مات بآلة حادة خرجت من الداخل، علي بسيف خرج من رحم الفتنة التي أراد أن يُطفئها، وتروتسكي من معول “رفيق” في الحزب.
لكن الموت لم يكن نهاية لهما، بل تحولهما إلى رمزين للضمير المهزوم الذي ظل يقظا في الذاكرة.
فكما لم تُطفئ الفتنة نور العدالة الذي حمله علي، لم تُطفئ المنفى نار الثورة التي حملها تروتسكي. كلاهما ظل شاهدا على أن الفكرة حين تُغتال، تولد من جديد في جيل آخر.
حين يتكرر الدرس ولا يتعلم التاريخ
من صفين إلى موسكو، ومن الكوفة إلى مكسيكو، يبدو التاريخ وكأنه يعيد نفسه بأسماء مختلفة.
في كل ثورة يولد علي جديد، وتروتسكي جديد، يرفعان راية المبدأ فوق المصلحة، ويؤمنان أن الصفاء ليس ضعفا، بل شرطا للعدل. وفي كل نظام، يتربص معاوية أو ستالين جديد، يحول الفكرة إلى سلطة، والسلطة إلى قدر، ثم يكتب التاريخ بلغة الغلبة لا بلغة الحق. ربما هذا هو قانون التاريخ، أن يظل الصراع مفتوحا بين النبوة والدهاء، بين الحق والسياسة، بين الفكرة وبقائها.
لكن الأمل يبقى في أولئك الذين لا يملون من الحلم، الذين يكتبون بالدم ما لا يُكتب بالحكم، والذين يؤمنون أن كل ثورة، مهما انكسرت، إنما تُبقي في الإنسان حنينا سرمديا إلى العدل والحرية.
