إدريس الأندلسي
أعترف بأن لقطار البراق مزايا كثيرة ، غير تلك التي تتعلق بالسرعة و إحترام التوقيت و توفير راحة للمسافرين. لا تبخل تلك السيدة التي ترافق بصوتها كل مسافر لتخبره بكل شيء مفيد عن رحلته عبر قطار يتمنى كثير من المواطنين أن يصل إلى مدينتهم. و تعد نصائحها ذات بعد يتجاوز الوصول إلى محطة، و مغادرة أخرى. تنبه المسافرين إلى عدم نسيان امتعتهم عند إنتهاء رحلتهم. و لكن هذا الصوت الجميل، الذي أصبح يستعمل لغتين للتخاطب فقط، و هما العربية و الإنجليزية، يؤكد على شيء يوجد في عمق التربية على إحترام طمأنينة و هدوء الراكب خلال سفره. و تقول رسالة البراق ، التي يحملها صوت جميل، أن للمكالمات التلفونية مكان مخصص خارج المقصورات الخاصة بالركاب. يسمع الجميع إلى هذا النداء، و لا يحترمه إلا القليل.
و لا تخلو الرحلات عبر البراق من حكايات تكشف بكثير من الدقة عن واقع مجتمعنا. تتيح هذه التجربة السفرية الإطلاع غير الإرادي عن أسرار أسر، و أحزاب و جمعيات، و رجال أعمال، و بعض ممن يحاولون إثارة الإنتباه إلى موقع سلطوي، أو علاقات كبرى مع دوائر عليا. كان أحد الصحافيين في رحلة من طنجة ، و كان شاهدا على جبروت أحد الذين تعودوا على إبراز العضلات و العلاقات. كان صاحبنا هذا يتكلم بصوت مرتفع ضايق كل من كان بالعربة التي توجد بها الدرجة الأولى. و اضطر أحد المواطنين المسافرين إلى تنبيهه إلى أن قانون يحتم عليه أن يستخدم هاتفه في المكان المخصص لهذا
الغرض. و يا ليته ما نبه هذا المسافر ذو الصوت المتجبر. سكت كل من كان، بالعربة حين تعرفوا على من غضب من ملاحظة مواطن مسافر على البراق.
كانت ثاني حكاية كنت شاهدا عليها مجبرا ، غير راغب في التعرف على تفاصيلها التي تتعلق بعلاقة حب تعرضت لنكسة بين حبيب و محاولة حبيبته تبرير مشهد لا يعلم المستمع بأسبابه، و لا بحيثياته. تابع كل ركاب عربة القطار تألم شاب كان يخاطب حبيبته أو خطيبته، و يصيح بأعلى صوته بأن علاقته ، بمخاطبته على الطرف الثاني من الخط ، قد إنتهت، و يزيد في التأكيد على ضرورة إنهاء المكالمة. لكن يظهر أن هذه السيدة كانت تمتلك أدوات التهدئة ،حيث تخف حدة الصوت. وفجأة يعود البرق و الرعد، فيرتفع الصوت من جديد. و إنتقلت أحاسيس الراكبين من حالة التضايق من شخص لا يحترم راحة المسافرين إلى حالة من الانتشاء من متابعة مسرحية على البراق مباشرة. و بلغ الضحك لدى البعض إلى القهقهة. و هناك من كان يقول، مازحا، ” لا يجب أن تستمر علاقتك بها”، و يحاول البعض الآخر أن يهدئه قائلا ” سامحها هذه المرة” . وصل البراق إلى طنجة، وصاحبنا لا زال يصيح، و يزبد و يرغي. لعله ذهب في إتجاه الميناء لترك البلاد و العباد…
و يظل مشكل الهاتف في البراق حافلا بالمواقف. قبل أيام أستمر أحد الركاب في مكالمة عرفنا من خلالها أنه فلاح من المصدرين، و أنه يمارس القنص، و أنه يستجيب لطلبات بعض معارفه عبر إعارة بندقيته و تجهيزها بكل ما تتطلبه رحلة القنص. عرف جميع ركاب العرب أنه يتكلم إنجليزية ركيكة، و يأمر سائقا بالحضور في الوقت للذهاب إلى المطار، و أنه سيضطر للرجوع إلى الرباط لحضور لجنة برلمانية تناقش موضوع” الحكم الذاتي”. و لم يفته أن يتكلم مع أحد مخاطبيه عن ضرورة تكثيف علاقاته للتحضير للانتخابات المقبلة .و سمع الجميع أسلوب هذا ” البرلماني ” الذي يعكس مستواه الثقافي المتواضع.
و يبقى من الضروري أن نشير إلى أن البراق يشبه صالونا متنقلا جميلا. إلا أن الجلوس في هذا الصالون يتطلب كثيرا من التحلي بطقوس الإحترام ، و خصوصا في جوانب تتعلق بالنظافة و عدم إستغلال السفر للتنفيس على ما يختزنه الجهاز الهضمي من غازات. و قد لاحظت ذلك من خلال ردود فعل كثير من تعرضوا للغازات عن قرب. البراق يضمن أماكن خاصة بالتنفيس عن ما يجري في الأمعاء، يكفي أن يتوجه المضطر إلى أقرب مكان متاح بدل الكسل.
