في منصة السويسي بالرباط، لم يكن هناك “حفل فني”، بل طوفان بشري يُشبه مأتمًا صاخبًا لجيل يُشيّع مستقبله وهو يرقص.
ما حدث في مهرجان موازين لم يكن لحظة صعود، بل لحظة انكشاف كامل:
جيلٌ سقط، فاحتفل بسقوطه.
جيلٌ فقد بوصلته، فاختار أن يُحوّل الضياع إلى “عرض جماهيري”.
جيلٌ بلا حلم، بلا مشروع، بلا قضية… فجعل من “طوطو” نبيًّا مؤقتًا يصرخ باسمه، فقط كي لا يسمع صوته الداخلي وهو يتحطم.
لم يأتوا من أجل الراب… بل من أجل الهروب
هؤلاء الذين توافدوا بعشرات الآلاف، لم يأتوا لأنهم يحبون الموسيقى،
جاؤوا لأنهم لا يجدون مكانًا آخر يجمعهم:
لا حزب، لا نقابة، لا مقهى نظيف، لا حديقة عامة، لا حضن…
فجعلوا من منصة موازين “ملاذًا لحظيًا” من حياةٍ فقدت كل طعم.
لا أحد سألهم عن أحلامهم، لأن لا أحد يُصدّقهم.
فانفجروا في كلمات “الغراندي طوطو”، لا لأنه شاعرهم، بل لأنه الوحيد الذي يتكلم بالبذاءة نفسها التي أصبحت لغتهم الرسمية في مواجهة العبث.
هذه ليست موسيقى… هذا بكاء جماعي بصوت عالٍ
ما يُسمّى اليوم بالراب المغربي، لم يعد فنًّا،
بل صار تفريغًا همجيًّا لغضبٍ غير مثمر، وبوحًا مفتوحًا لعطب داخلي جماعي.
إنه موسيقى من لا يملك شيئًا… ولا ينتظر شيئًا…
أغنية من لا يحلم… لأنه يعرف أن لا أحد سيحقّق له شيئًا.
> “ماشي فالمستوى… ولكن طالعين!”
“كنعيشو اليوم، ماشي فالغد!”
عبارات تُضحك حين تُقال، لكنها في جوهرها صرخات لجيل يشعر أنه يعيش تحت أنقاض وطن لا يراه.
حين تستضيف الدولة انهيار شبابها… وتصفّق له
السلطة التي استدعت طوطو، تعرف جيدًا ما تفعل،
لم تدعه لأنها تؤمن بالراب، بل لأنها تخاف من الفراغ، وتفضّل الضجيج المُراقب.
تركت لهم الصراخ على منصة، حتى لا يصرخوا في الشارع.
صفّقت لاحتشادهم، لا حبًّا فيهم، بل لأنها وجدت في ضياعهم فرصة لتلميع واجهة “الانفتاح الثقافي”.
المفارقة مؤلمة:
الشباب يصرخ لأنه موجوع…
والسلطة تصفّق لأن الصراخ صار “عرضًا”.
هذا الجيل لا يغنّي… بل ينزف
الذين غنّوا مع طوطو، لم يكونوا منتشين… كانوا منهكين.
ينزفون من الداخل، ويرقصون على جراحهم.
يضحكون على أغنية، وعيونهم تقول شيئًا آخر:
نحن تائهون… دعونا ننسى قليلًا… ثم نعود لنواجه العدم.
أكثر ما يوجع ليس أن طوطو صعد إلى المنصة،
بل أن جيلًا كاملًا لم يجد غيره ليصعد معه.
سؤال أخير… إلى من يهمه الأمر:
هل نلومهم؟
هل نلوم أبناء الهامش، التائهين، المُهمّشين، الذين لم نمنحهم سوى الفتات؟
هل نلومهم لأنهم صرخوا بكلمات نابية… ونحن صرخنا فيهم سنوات بالصمت والتهميش؟
لا… اللوم الحقيقي على وطن ترك أبناءه للفراغ، ثم تفاجأ حين عادوا إليه صاخبين، ناقمين، بلا حلم، ولا انتماء.