يوسف اغويرگات
على هامش تصريح بنكيران
بين الدين والسياسة : حدود الفتوى ومسؤولية الخطاب العمومي
قبل ست سنوات، أطلقت جمعية “الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان” تحذيرا واضحا من تفاقم ظاهرة خطاب الكراهية والتحريض باسم الدين، وخاصة حين يصدر عن شخصيات عمومية ذات رمزية سياسية أو دينية. أوردنا وقتها مثالين على ذلك من خلال خطاب كل من عبد الإله بنكيران وأحمد الريسوني.
الأول، اتهم أعضاء اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي بالتشكيك في الدين الإسلامي، في خطوة وصفناها بأنها تندرج ضمن خطاب التكفير الرمزي، وتؤسس لفرز قيمي خطير داخل المجتمع، وتندرج ضمن خطاب تحريضي يمتح من منظومة التكفير، ويحتوي تهديداً مباشراً ضد أعضاء اللجنة. وهو لا يمس هؤلاء في عقيدتهم ويشكّك في معتقداتهم فحسب، بل يخرجهم، دون وجه حق، من الدين والملة.
أما الثاني، فقد هاجم مناصري الحريات الفردية واعتبر مطالبهم تنحصر في ” محرمات الفرج والدبر.. والسكر العلني والإفطار الاستعراضي في نهار رمضان…”. وهذا غيض من فيض مقال مليء بالألفاظ البديئة والمعاني المعيبة المتلصصة على حياة النساء والمسيئة لهن. مقال بعيد كل البعد عن المجادلة بالحسنى التي يفترض أن يكون أول من يطبقها ويدعو إليها. مقال خال من كل لمسة دعوية أو تربوية، بل تفنن وأبدع في إنتاج قاموس من السب والشتم.
إن خطورة خطاب كل من عبد الإله بنكيران وأحمد الريسوني لا تكمن فقط في فظاظة العبارات أو امتهان الكرامة الإنسانية، بل في كونه يصدر عن شخصيتين تحظيان بمكانة اعتبارية، الأولى سياسية كرئيس حكومة سابق، والثانية دينية كرئيس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وهما موقعان يفترض فيهما أن يكون الخطاب معتدلا، داعيا إلى التبصر والتعقل، وحريصا على السلم المجتمعي واحترام التعدد والاختلاف داخل المجتمع
هذان النموذجان يشكلان مثالا صريحا لخطاب التحريض والكراهية المبني على التمييز والإقصاء الديني والاجتماعي. وهو خطاب لا يهدد الحقوق الفردية فحسب، بل يقوض أسس التعايش المشترك، ويمنح المبرر الرمزي والمعنوي لأولئك الذين يمارسون العنف الرمزي أو المادي باسم “النهي عن المنكر”. ومن هنا، فإن من واجب المؤسسات الدينية والحقوقية أن تُدين هذا النوع من الخطاب، وأن تعمل بجدية على تجفيف منابعه ومساءلة أصحابه، خصوصا حين يتخذون من منابر التأثير مواقع لنشر الكراهية بدلاً من ترسيخ قيم الرحمة، والحوار، والاحترام المتبادل.
اليوم، بعد مضي سنوات على هذين التصريحين الخطيرين، يُعيد الأمين العام لحزب العدالة والتنمية إنتاج نفس المنطق، بل يوسع مجال خطابه ليشمل فتاوى في الشأن العسكري والدبلوماسي، حيث أفتى بنكيران في اجتماع للأمانة العامة لحزبه يوم السبت 31 ماي 2025 بأن مشاركة فيالق من الجيش الإسرائيلي في مناورات عسكرية داخل التراب المغربي “لا تجوز شرعا ولا ديمقراطيا”.
هذه الفتوى السياسية، الصادرة عن شخصية حزبية لا تحمل أي صفة دينية رسمية ولا اختصاصا عسكريا أو دستوريا في تدبير العلاقات الخارجية والدفاع الوطني، تشكل انزياحا خطيرا عن حدود الدور السياسي إلى مجال الفتوى في قضايا سيادية تمثل جوهر اختصاص الدولة ومؤسساتها المنتخبة والمعينة. وهي بذلك تخرق مبدأ فصل السلطات، وتخلط بين المرجعية الشرعية وبين منطق الدولة المدنية.
والأخطر من ذلك أن هذه التصريحات لم تتوقف عند إصدار “فتوى عسكرية”، بل ترافقت مع أسلوب قدحي في مخاطبة جزء من الرأي العام المغربي، حين وصف خصومه بـ”الميكروبات” و”الحمير”، بما يعكس استمرار منطق الإقصاء والاحتقار الذي سبق رصده، والذي يقوّض قيم التعدد والتعايش، ويكرس العنف الرمزي كأداة للصراع السياسي.
بين الشخص والرمز: مسؤولية الموقع
ليس عبد الإله بنكيران مجرد فاعل حزبي. إنه رئيس حكومة سابق، وشخصية اعتبارية تؤثر في المزاج السياسي والعام. وهذه المكانة تفرض عليه قدرا من المسؤولية في انتقاء العبارات وضبط الخطاب، إلا أن ما نتابعه باستمرار هو نزوع متصاعد نحو استخدام الدين لتأثيم الخصوم السياسيين، وتعبئة الأنصار بخطابات مشحونة أخلاقيا لكنها مفلسة من حيث المعالجة السياسية الرصينة.
منذ سنوات وناقوس الخطر تُدق بشأن هذا الانفلات، مما يستوجب سن تشريعات تجرم التكفير وخطاب الكراهية، وتحصين الحقل السياسي من التوظيف الشعبوي للخطاب الديني. واليوم، تؤكد تصريحات بنكيران راهنية هذه المطالب، بل تدفعنا إلى تجديد التأكيد على ضرورة:
حصر الفتوى في المؤسسات المختصة، واحترام اختصاصات الدولة في تدبير العلاقات الدولية والدفاع؛
وقف تسفيه المواطنين واستعمال الأوصاف الحاطة بالكرامة في الخطاب العمومي؛
تعزيز الثقافة الديمقراطية القائمة على الحوار والتعدد، لا على الاستعداء والتكفير السياسي.
ومع تأكيدي على احترامي لحزب العدالة والتنمية، الذي تجمعني بمنتسبين إليه صداقة وتقدير، فإنني أرى أن مسؤولية الوقوف في وجه خطاب الكراهية وتوظيف الدين في الصراع السياسي تقع أولا على عاتق من ينتمون إلى هذا الحزب، بحكم قربهم من الفضاء الداخلي المؤثر وبحكم إيمانهم، كما أعرفهم، بقيم الاعتدال والمسؤولية الوطنية.
إن تصريح عبد الإله بنكيران عن الجيش، ليس حدثا عرضيا، بل هو حلقة جديدة في مسار خطاب يقوم على مصادرة الاختلاف باسم “الدين” واحتكار تمثيل “الشرع” داخل الحقل السياسي. وهذا ما يستدعي من كل القوى الديمقراطية، ومن حزب العدالة والتنمية، ومن مؤسسات الدولة، وقفة نقدية حازمة لتحصين المجال العمومي من هذا الانزلاق، وتجديد الالتزام بقيم الدولة المدنية، القائمة على القانون والمؤسسات، لا على الفتاوى الحزبية.