آخر الأخبار

جيل “زيد” واحتجاجات المغرب: حين ينفجر الصبر في وجه اللامبالاة

لم يكن كثير من المسؤولين يتوقعون أن يخرج شباب جيل “زيد” إلى الشارع، معبّرين عن غضبهم من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية. هؤلاء المسؤولون اعتقدوا أن أساس أي حركة احتجاجية أو ثورة، وهو التعليم، قد تم ضرب نواته منذ سنوات، فبات الجيل الجديد غير قادر على التنظيم أو المطالبة بحقوقه. غير أنهم تناسوا أن هذا الجيل رقمي، عصامي، يتعلم من الإنترنت ومن مصادر متعددة، مما جعله أكثر وعياً بحقوقه وأقل صبراً على الإقصاء والتهميش.

لقد تهاونت الحكومات المتعاقبة في إصلاح أهم قطاعين: التعليم والصحة. وبدل أن تنجح الإصلاحات في إحداث نقلة نوعية، تراكم الفشل وأصبح التعليم مثقلاً بالمشاريع غير المكتملة. المجلس الأعلى للتربية والتكوين أقرّ بأن بعض المشاريع، مثل “مدارس الريادة”، لم تحقق الأهداف المرجوة، وأن المناهج ما تزال بعيدة عن تهيئة المدرسة المغربية لمواجهة تحديات العصر. وحتى المجلس الأعلى للحسابات أشار بوضوح إلى ضعف الحكامة في تنزيل المخطط الاستعجالي للتعليم.

وإذا كان التراجع في التعليم يُترجم في غياب الجودة داخل المدرسة العمومية، فإنّ المشهد اليوم أصبح أكثر وضوحاً: مدارس خصوصية تستنزف جيوب المواطنين الهاربين من تعليم رسمي متدهور، تفاوت في المقررات الدراسية بين الشمال والجنوب، وتناقض صارخ بين مؤسسات متجاورة بمناهج مختلفة. كيف يُعقل أن يعيش التلميذ المغربي في بلد واحد بمقررات متباينة تكرّس انعدام المساواة؟

أما في القطاع الصحي، فإن الواقع أكثر إيلاماً. لا يزال العديد من المرضى يعانون من سوء المعاملة وقلة الموارد، فيتنقلون جيئة وذهاباً بين المستشفيات العمومية والمختبرات الخاصة لإجراء الفحوصات والتحاليل، مما يزيد من معاناتهم الجسدية والنفسية والمادية. بعضهم استسلم للموت البطيء بعد أن أنهكه المرض وعياء التنقل. مرضى السرطان خير دليل على هذه المأساة: الحكومة استطاعت بناء ملاعب هوكي وحلبات سباق وصالات فنية، وشراء رُدّارات باهظة الثمن، لكنها عجزت عن توفير أدوية أساسية لمرضى السرطان وعن تجهيز مستشفيات بالمعدات الطبية الضرورية لإنقاذ الأرواح.

في المقابل، تتبنى الحكومة شعار “العدالة الاجتماعية” كعنوان لبرنامجها، غير أن الواقع يكشف تناقضاً صارخاً. فالأرقام الرسمية نفسها تؤكد أن الفقر عاد للارتفاع: فبعد أن كانت نسبة الفقر المطلق في حدود 1.7% سنة 2019، قفزت إلى 3.9% سنة 2022 بسبب التضخم وغلاء المعيشة، أي أن عدد الفقراء تضاعف تقريباً من 623 ألف شخص إلى أكثر من 1.4 مليون. وإذا كان الفقر متعدد الأبعاد قد تراجع على الورق من 11.9% سنة 2014 إلى 6.8% سنة 2024، فإن الواقع يكشف هشاشة هذه النتائج، إذ ما يزال أغلب الفقراء يعيشون في قرى محرومة من خدمات أساسية في الصحة والتعليم والسكن.

ثمّة نقطة أخرى لا تقل أهمية، وهي طريقة تعاطي الحكومة مع مطالب المحتجين. فهذا الجيل فقد الثقة في الحكومة وفي شعاراتها، إذ لم يعد مقتنعاً بالخطاب المليء بالإحصائيات والمؤشرات التي قد تكون مبنية على مناهج علمية، لكنها تظل في نظره مجرد أرقام لا تنعكس على الواقع. الواقع شيء والخطاب شيء آخر. لغة الخشب لم تعد صالحة مع جيل دُمّر تعليمه، ونتيجة هذا التدمير أنه لم يعد قادراً على فهم الخطاب السياسي أو التفاعل معه. وإذا كان المغرب مرتبطاً بتظاهرات عالمية وبالتزامات دولية لا يمكنه لا إلغاؤها ولا تأجيلها، فإن المرحلة تستدعي حكامة حقيقية، وتطبيق الدستور عن حق وحقيقة، وربط المسؤولية بالمحاسبة فعلاً، بدل الاكتفاء بإعفاء أو تنقيل بعض المسؤولين كما جرت العادة. بل إن الأمر يفرض تدبيراً وقائياً anticipatif، قبل أن تتسع رقعة المطالب والاحتجاجات لتشمل جميع القطاعات وتتحول إلى موجة شاملة يصعب التحكم في مداها.

هذه التناقضات تجعل احتجاجات جيل “زيد” مشروعة وعقلانية. فالمغرب يعيش بسرعتين: سرعة رسمية تركز على مشاريع استعراضية، وسرعة شعبية تترنح بين رداءة التعليم وانهيار الصحة واتساع الفوارق الاجتماعية. أمام هذه الوضعية، يصبح الصبر عملة نادرة لدى جيل جديد معتاد على السرعة والإنجاز.

ثم ثمة عامل آخر ينبعث من طريقة التدبير: القمع والاعتقالات التي واجهت بعض هذه الاحتجاجات سيؤدي لا محالة إلى انتشار نطاق الاحتجاجات ليشمل جميع الأجيال، إذ أن العنف ضد الشباب المتمرد لا يُخمد الغضب، بل يوسّعه ويجعله أكثر تماسّاً عبر المجتمع ككل. وفي هذا السياق يظهر مشهد آخر محيّر: رجل الأمن، الذي وجد نفسه مكلفاً بتنفيذ تعليمات صارمة، هو بدوره جزء من مجتمع هشّ يعاني من تدهور الصحة وفشل التعليم. كثير من عناصر الأمن يعيشون واقعاً صعباً ويتمنون أحياناً لو أن لهم الحق في الاحتجاج على هذا الواقع، لكنهم ملزمون بواجبات مهنة وتلقوا أوامر يجب تنفيذها، مما يجعلهم بين مطرقة التوقعات الرسمية وسندان واقع اجتماعي متردٍ.

الخطر اليوم ليس في الاحتجاج نفسه، فهو تعبير سلمي عن أزمة عميقة، بل في طريقة تعامل الحكومة معه. إذ أن التدبير المرتبك، الاعتماد على إحصاءات مُطَمئنة لا تعكس الواقع، واستعمال القمع بدل الإنصات، يفاقمان الشعور بانعدام الثقة. والأخطر من ذلك أن استمرار هذا النهج قد يفتح الباب أمام خصوم الوطن لصب الزيت على النار واستغلال الغضب الشعبي لغايات أخرى.

ختاماً، ما يطالب به جيل “زيد” ليس ضرباً من الخيال، بل حق مشروع في تعليم جيد، وصحة متاحة، وعدالة اجتماعية حقيقية لا شعاراتية. فإذا لم تُدرك الحكومة أن التعامل مع هذا الجيل يتطلب جدية، سرعة، واستماعاً حقيقياً، فإن القادم قد يكون أكثر تعقيداً. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل ستستمع الحكومة إلى نبض الشارع، أم ستترك جيل “زيد” يكتب فصلاً جديداً من الاحتجاجات بأدواته الخاصة؟