خطاب 10 أكتوبر 2025 يرسم ملامح مرحلة جديدة قوامها العدالة المجالية، الفعالية المؤسساتية، واستعادة ثقة الجيل الرقمي
في لحظة سياسية مشحونة بالأسئلة والانتظارات، ألقى جلالة الملك محمد السادس خطاباً أمام البرلمان بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الجديدة، داعياً إلى الانتقال من منطق الوعود إلى منطق النتائج، ومن زمن الخطابات إلى زمن الفعل.
الخطاب، الذي تزامن مع تصاعد موجة احتجاجات جيل زد 212، حمل رسائل قوية إلى الحكومة والبرلمان معاً، محدداً أولويات المرحلة المقبلة في العدالة الاجتماعية والمجالية، وتثمين الكفاءات، وربط المسؤولية بالمحاسبة، في أفق مغرب جديد يوازن بين الطموح الواقعي وروح الإصلاح المستمر.
رسالة ملكية لتجديد الثقة في المؤسسات
منذ مستهل الخطاب، شدّد جلالة الملك على أهمية العمل البرلماني في التشريع والمراقبة والتقييم، داعيًا إلى استثمار السنة الأخيرة من الولاية في استكمال المشاريع المفتوحة والابتعاد عن الحسابات الانتخابية الضيقة.
ففي زمنٍ تتراجع فيه ثقة المواطن في المؤسسات، جاء النداء الملكي واضحًا: “التحلي باليقظة والالتزام في الدفاع عن قضايا الوطن والمواطنين.”
بهذه الدعوة، أراد الملك أن يعيد التذكير بأن الإصلاح لا يكون فقط من فوق، بل من داخل المؤسسات نفسها، وأن البرلمانيين والأحزاب مطالبون اليوم بترجمة وعودهم إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع.
العدالة الاجتماعية والمجالية في صلب المشروع الملكي
الخطاب الملكي أكد بوضوح أن العدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية ليست مجرد شعار سياسي، بل توجّه استراتيجي ورهان مصيري.
وقد حدّد جلالته أولويات دقيقة تشمل:
- تنمية المناطق الجبلية التي تغطي 30% من التراب الوطني؛
- التفعيل الجدي لآليات التنمية المستدامة للسواحل ضمن اقتصاد بحري وطني؛
- توسيع المراكز القروية لتقريب الخدمات الإدارية والاجتماعية من المواطنين؛
- وتحسين التعليم والصحة وفرص الشغل للشباب.
هذه المحاور تُترجم رؤية ملكية واضحة لربط التنمية بالعدالة، لا بالاستثمار فقط، وتجاوز المركزية المفرطة التي همّشت لعقود مناطق بأكملها.
إشارات واضحة إلى جيل الغضب الرقمي
رغم أن الخطاب لم يُشر صراحة إلى احتجاجات الشباب الأخيرة، إلا أن مضامينه بدت كاستجابة غير مباشرة لمطالبهم.
فحين دعا الملك إلى “ثقافة النتائج” و”استثمار التكنولوجيا الرقمية” و”محاربة الممارسات التي تضيع الوقت والجهد والإمكانات”، كان يخاطب الجيل الجديد بلغة يفهمها: لغة المحاسبة، والكفاءة، والشفافية.
كما أن تحميل المسؤولية لجميع الفاعلين — من الحكومة والأحزاب إلى الإعلام والمجتمع المدني — يعكس وعياً ملكياً بضرورة إعادة بناء الثقة الأفقية داخل المجتمع.
تحدي التنفيذ… بين الرؤية والواقع
يضع الخطاب الملكي خارطة طريق جديدة للمرحلة المقبلة، تؤكد أن الرهان لم يعد في بلورة التصورات بقدر ما أصبح في تملك ثقافة الإنجاز وتفعيلها ميدانياً.
فبعد سنوات من الإصلاحات البنيوية والتخطيط الاستراتيجي، يبدو أن الزمن السياسي والإداري للمملكة يتجه نحو منطق الفعل الملموس وربط السياسات العمومية بأثرها الواقعي على حياة المواطنين.
ومن هذا المنطلق، تتجلى مسؤولية الفاعلين الحكوميين والترابيين في تحويل التوجيهات الملكية إلى مشاريع قابلة للقياس والتتبع، عبر آليات تنفيذ فعالة وتنسيق مؤسساتي يضمن انسجام الرؤية ووحدة التنفيذ.
إنها لحظة اختبار حقيقية لمدى نضج الإدارة المغربية وقدرتها على تجسيد الإرادة الملكية في سياسات تنموية متكاملة ومستدامة.
ما بعد الخطاب
وهكذا، فإن الخطاب الملكي لا يكتفي بتشخيص المرحلة الراهنة، بل يرسم معالم التحول القادم ويضع الرؤية الملكية نصب أعين جميع الفاعلين، داعياً إلى تحويل التوجيهات إلى إنجازات ملموسة تعكس نجاعة المؤسسات وارتباطها بمصالح المواطنين.
في المحصلة، يمكن اعتبار خطاب جلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة افتتاح البرلمان في 10 أكتوبر 2025 محطة توجيهية حاسمة في مسار الإصلاح الوطني. فهو ليس مجرد دعوة إلى الاستمرار، بل إلى الانطلاق الفعلي في ترجمة الرؤية الملكية إلى إنجازات ملموسة تُعيد الثقة في المؤسسات وتُكرّس العدالة الاجتماعية والمجالية كركيزتين لمغرب المستقبل.
وبين وضوح الرؤية الملكية ومسؤولية التنفيذ الحكومية، يتحدد مصير المرحلة المقبلة، مرحلة عنوانها العمل الجاد، والمردودية، والكرامة المواطنية، في ظل قيادة حكيمة جعلت من الإنسان محور التنمية وغايتها العليا.
والسؤال الذي يظل مفتوحاً أمام الجميع: هل ستقوم الحكومة والأحزاب بتنفيذ التوجيهات الملكية، أم سيبقى الشارع مضطراً ليخرج من جديد ليذكّر الجميع بضرورة الفعل؟