آخر الأخبار

ثَلَاثَةُ أَطْيَافٍ مِنْ آسِفِي: إِدْمُون، سَلُومُون، أَسِيدُون

يوسف اغويركات

بعيدا عن أي نزعة شوفينية أو اختزال للذاكرة، هذا نص وجداني يستحضر ثلاثة وجوه من أبناء مدينة آسفي: إدمون عمران المالح، سلومون أمزلاج ، وسيون أسيدون.
وجوه حملت صوت المدينة في الغياب، واحتفظت بها في النغمة، وفي الكلمة، وفي الموقف. النص لا يُمجد أسماء بحد ذاتها، بل ينصت إلى ما تبقى من أصواتهم في ذاكرة آسفي، ويوجه نداء إلى من يملكون القرار:
آسفي لا تستحق هذا النسيان. آسفي التي أنجبتهم، تستحق أن تنجب المستقبل أيضا.

سامي المغربي، حين غنت آسفي بصوت يهودي

لم ألتقِ عن قرب بسلومون أمزلاج، المعروف بـسامي المغربي، غير أن صوته سبق حضوره إلى وجداني. كنت أستمع إلى أغانيه قبل أن أعرف ملامحه، وكان صوته مزيجا من السماء والبحر، تمتزج فيه أنغام الملحون والأندلسي والنوبة الغرناطية، وكأن المدينة نفسها كانت تغني من خلاله.
كان يملأ البيوت والدهاليز والأزقة الضيقة، فيوقظ في حلما يتجاوز حدود آسفي، حاضرة المحيط التي عاش فيها آباؤنا في طمأنينة وسلام.
لم ألقَه يوما، لكنني كنت أتعرف إلى طيفه في كل لحن، حيث تتجلى ذاكرة وطنية صافية، وإحساس عميق بالهوية المغربية المشتركة التي تتخطى الدين والطبقة والانتماء. كان يغني وكأنه يعيد تشكيل الذاكرة المغربية صوتا وصياغة، تمزج أغانيه بين الطرب الأندلسي والملحون والموسيقى الشعبية، وتجسد روح التعدد الثقافي الذي ميز آسفي والمغرب عموما.
في أغانيه، كانت الكلمات تنساب كما لو أنها تروى في دربٍ من دروب المدينة القديمة، وكان صوته ينسج من الحنين لحافا يغطي ذاكرة وطنٍ لا يزال يبحث عن نفسه في لحنٍ ضائع.

إدمون عمران المالح، حين كتب المغرب بلغات القلب

في الرباط، شاءت الصدفة أن ألتقي بإدمون عمران المالح، الكاتب والمفكر الذي حمل المغرب في كلماته أينما رحل. كان لقاؤنا الأول في مقهى باليما، حين علمت أن الصديق العزيز عبد الغني أبو العزم على موعد معه هناك. طلبت أن يصحبني إليه، بعد أن كانت بيننا مكالمات هاتفية متقطعة.
في تلك المقهى، حيث تجلس الشمس على طاولات الزجاج وتغيب بين الكتب وأحاديث المثقفين، جلسنا نتبادل الرأي في قضايا المدينة والإنسان والهوية. كان الحاج عمران المالح، كما كنا نناديه، مفكرا رصينا، صريحا في نقده، منصفا في قراءته للآخرين، عميق الإحساس بما يشكل جوهر الوجود المغربي.
دعاني إلى بيته مرتين، في زنقة “بين الويدان” بأكدال، وكان يناديني باسم عبد اللطيف، على اسم أخي الأكبر الذي جمعته به صداقة قديمة في فرنسا. هناك، شعرت كيف تتشابك الذاكرة مع الأسماء، وكيف يعيد الماضي ترتيب الزمن على مهل وبصمت عميق.
في الفيلم الوثائقي “ألف يوم ويوم: الحاج إدموند” للمخرجة سيمون بيطون، يتكلم إدمون عمران المالح بصوت هادئ عن الاجتثاث، عن اليهود الذين غادروا المغرب دون أن يعرفوا إلى أين، تاركين وراءهم المقابر والذكريات.
يظهر في الفيلم كما عرفته، رجلا لا يختزل في هوية واحدة، بل يجسد المغرب في تعقيده وجماله. تُضيء بيطون جوانب خفية من حياته، من نشأته في ظل الاستعمار، إلى نضاله السياسي، إلى كتاباته التي حملت المغرب في تفاصيلها.
كان يؤمن أن الكتابة مقاومة، وأن الذاكرة ليست ترفا، بل ضرورة أخلاقية، وأن المغرب الحقيقي يسكن في التفاصيل الصغيرة، في الحكايات المنسية، وفي أسماء الشوارع التي لا تزال تهمس بلغات متعددة.

أسيدون: صوت لا يساوم، وذاكرة لا تنسى

أما سيون أسيدون، فقد عرفته أول مرة في بيروت، حيث توطدت صداقتنا عبر لقاءات متكررة في مختلف مدن وقرى لبنان، كانت مفعمة بالحوار والنقاش حول السياسة والعدالة والمغرب.
ثم التقينا لاحقا في مدن مغربية عدة، وكان كلما رآني يبتسم قبل أن يصافحني قائلا بمداعبته المعهودة: “Mon ami par qui le scandale arrive”، كانت تلك قراءة طريفة لاسمي (Ghouirgate)، لكنها في الوقت نفسه نكتة ذكية من رجل لا يخلو من روح الدعابة والعمق معا.
كان أسيدون مناضلا صلبا لا يساوم، صادقا في مواقفه، مستقلا في رؤيته، رافضا الخلط بين اليهودية والصهيونية، ومؤمنا بأن الإنسان يسبق كل انتماء.
كانت لي معه أحاديث طويلة، بعضها مكتوب، عن فلسطين وآفاق الحل، وعن المقاومة وعن الحل السياسي، وكانت بيننا خلافات في التقدير، لكن أشهد أنه كان رجلا مبدئيا ويتصرف في كل مواقفه بأخلاق عالية.
أتذكر كيف حكى لنا قصة هروبه من السجن سنة 1979 رفقة اجبيهة رحال ونجيب البريبري، كان جبيهة يتزعم المحاولة، لكنه توفي أثناء القفز من سطح المستشفى، حين انقطع الحبل المصنوع من أغطية الأسرة.
رغم المأساة، روى أسيدون القصة بروح دعابة، كأنه يضحك على المصيبة ليغسل بها أوجاع القلب.
كان حكَّاء حقيقيا. في كل لقاء، كنت أكتشف فيه وجها جديدا من وجوه الراوي، الذي يحسن الإيقاع، ويتقن المزج بين السخرية والصدق، بين الحكاية والمبدأ، بين الذاكرة والمستقبل.

آسفي، حيث تبدأ الحكايات… ولا تنتهي

هؤلاء الثلاثة، على اختلاف طرقهم ومساراتهم، ومهما تباعدت دروبهم، جمعني بهم خيط واحد خفي: آسفي.
المدينة التي لم تعرف يوما أسوارا بين أبنائها، ولم يكن فيها حي خاص باليهود، بل عاش الجميع في تداخل إنساني عميق، حيث كانت الجيرة أسبق من الانتماء، والمودة أعمق من الفوارق.
في المدينة القديمة، توجد زنقة تعرف بـ”درب اليهودي”، لكنها، وعلى خلاف اسمها، لم تكن حكرا عليهم، إذ لم يسكنها سوى قلة، بينما توزع الباقون على دروب المدينة كلها، يشاركون جيرانهم تفاصيل الحياة اليومية، من مواسم وأفراح وأحزان. لم تكن هناك حواجز تذكر، لا جدران تفصل، بل ألفة مكتسبة عبر الأجيال، واحترام متبادل صار جزءا من نسيج المدينة.
هل هي صدفة أن هؤلاء الثلاثة، رغم اختلافهم، غادرت أسرهم مدينة آسفي في سن مبكرة؟
إدمون إلى الصويرة، سامي إلى الرباط، وسيون إلى أكادير. كأن المدينة أنجبتهم ثم أطلقتهم في الجهات، ليحمل كل منهم وجها من وجوهها، ويعيدها في نغمة، أو فكرة، أو موقف. لكنهم، رغم المسافات، ظلوا أبناءها في العمق، وظلت آسفي تسكنهم كما سكنت البحر.
أعرف أسرا كثيرة غادرت آسفي إلى مدن أخرى أو إلى المهاجر البعيدة، ولا أعرف السبب بدقة، ربما بحثا عن أفق أوسع، أو فرص حياة أفضل، أو استجابة لتحولات الزمن. ومع ذلك، بقيت آسفي تسكن الذاكرة، حاضرة في الأغاني والكتب والضحكات والشوق والحنين. كان ماضيها أجمل من حاضرها، وأتمنى أن يكون مستقبلها أجمل.
آسفي لم تنجب هؤلاء فقط، بل أنجبت وما تزال تنجب، أصواتا وأسماء وحكايات تستحق أن تروى. هنا يضيق المجال عن ذكر الأسماء الوازنة من أبنائها في شتى المجالات: في الفكر، والفن، والسياسة، والعلوم، وفي تفاصيل الحياة اليومية التي لا تقل نبلا عن الأضواء.
لكن هؤلاء الثلاثة، بما حملوه من رمزية، يضيئون جانبا من ذاكرة المدينة، ويذكروننا بأن آسفي كانت وما تزال مدينة ولادة، تنجب التعدد، وتربي الحلم، وتصغي للغات متعددة تنبع من قلب واحد.
ومن هذا الحنين، وهذا الاستحضار الوجداني أوجه نداء إلى أصحاب القرار في آسفي:
اعتنوا بآسفي التي طالها التهميش من كل جانب، اعتنوا بالتراث اللامادي لآسفي، بموسيقاها، وأدبها، وفكرها، وحكاياتها، وأصواتها التي ما زالت تهمس في ذاكرة البحر.
أن يكون هؤلاء الثلاثة من أبناء آسفي، فذلك فخر للمدينة، ودليل على أنها أنجبت شخصيات فذة، أصوات حملت قيم التعددية، والسلام، والجمال، والإبداع.
ولتظل آسفي اسما يتردد في زوايا المغرب، وعلى شواطئ المحيط، حيث تبدأ الحكايات… ولا تنتهي .